رد على محاضرة أمين عام حزب العـــهد
ترددت كثيراً في إعادة نشر هذا المقال هنا، إذ أثار حين نشره في 27/ 1/ 1997، في صحيفتي"الرأي" و"المجد"، جدلاً كبيراً.لحساسية المواضيع التي تناولتها محاضرة السيد عبد الهادي المجالي، وظروف إلقائها، والذي جاء هذا المقال رداً عليها.
لكنني في النهاية قررت إعادة النشر لعدة أسباب.أولها، أن المحاضرة وردي عليها، منشوران في الصحف، واطلع عليهما الآلاف، وبإمكان من يريد اليوم الاطلاع عليهما العودة إلى أرشيف الصحيفتين.وثانيها، أن الخلاف في الرأي لم يفسد للود قضية بيني وبين عبد الهادي المجالي.أما ثالثها، فهو أن التوافق بيننا أصبح هو السائد في العلاقات والمفاهيم السياسية. وهذا في رأيي يصب في صميم المفهوم الوطني المشترك، الذي أتمنى أن يسود الساحة السياسية الأردنية.
ألقى السيـــد عبد الهادي المجالي أميـــــن عام حزب العهد، محاضرة بتاريخ 19/1/1997 بعنوان (الهوية الوطنية وازدواجية الولاء السياسي في الاردن) بدعوة من نادي الحسين الرياضي في إربد. ووجدت أن المحتوى السياسي لهذه المحاضرة ولهذا الفكر فيه الكثير من الخطورة، حيث وجدت أن من واجبي وواجب كل أردني أن يتصدى له بكل قوة ووضوح وموضوعية، فقد تعدى الفكر السياسي المطروح من خلال هذه المحاضرة الإقليمية البغيضة وتجاوزها ليعبر عن فكر أكثر يمينية وأكثر تطرفاً، وأصبح حسن النية والافتراض بأن هذه الآراء تطرح من قبل أشخاص، ولا تمثل إلا قائليها سذاجة سياسيــة، فالسيد عبد الهادي المجالي هو أمين عام حزب العهد، وهو وزير رئيسي في الحكومة الحالية، وتلمع صورته باستمرار، وتم منحه أقدميه على العديد من الوزراء حين تم الإعلان عن تشكيل الحكومة لتقريبه تدريجياً من مركز صنع القرار، وقد يصبح حزبه يوماً ما هو (الحزب الحاكم).
يقول السيد المجالي إن الهوية الوطنية وازدواجية الولاء هو (موضوع جرى تأجيله كثيــراً) وأنه قد آن أوان بحثه الآن، ويطلب أن يفتح نقاش صريح وعلني حوله.
لهذا، فإنني أقول إن محاضرة السيد المجالي تحتوي على العديد من الألغام والأفكار الخطيرة، وأنوي التركيز على واحدة منها، ولكنني سأذكر سريعاً بعضها الآخر دون الدخول في تفاصيلها،
- عنوان المحاضرة (الهوية الوطنية وازدواجية الولاء السياسي في الأردن) لا ينسجم مع الأفكار الرئيسية المطروحة فيها، فالسيد المجالي لا يشرح لنا ولا يثبت لنا أين وقع الاعتداء على الولاء الوطني، وما هي مظاهر هذه الازدواجية، هو يريد أن يبحث في أمر الأردنيين من أصل فلسطيني، وفي أوضاعهم وحقوقهم السياسية، وأن يتخذ بشأنها موقفاً معيناً. واستخدم المحاضر العنوان فقط للتلميح بأن هذه الفئة من المجتمع الأردني لها ولاء مزدوج، واحد للأردن والآخر لفلسطين، وإنني أتساءل: هل العمل لأجل تحرير فلسطين والارتباط القــــومي والعاطفي بها ومعها، ينم عن عدم ولاء للأردن؟ وهل هناك تناقض بين المواطنة الصالحة في الأردن وبين العمل لأجل فلسطين؟ وهل هذا الترابط بين الأردنيين وقضية فلسطين هو ضد النظام الأردني؟ إذن، ما هي ماهية هذه الازدواجية؟ لم يعطنا السيد المجالي في محاضرته أية اثباتات أو أدلة أو حجج أو براهين أو أمثلة تدل على هذا الولاء المزدوج أو عدم الولاء، بل تقترح افتراضاً أن مثل هذا الأمر واقع، إن في هذا تحريضاَ خطيراً نرى آثاره ومساوئه تتفاعل على الساحة الاردنية باستمرار، وجريرة المحرض على الشر والسوء كجريرة من يقوم بهما.
- تعرضت المحاضرة إلى (نفر بيننا يحترف السياسة) بالذم بسبب مواقفها السياسية، واتهمها بالانتهازيـــة السياسيــــة التي تتأرجح بين الموالاة والمعارضة حسب مصالحها الضيقــــــــــة، وقد تم الزج بهذه الفقرة في بداية المحاضرة دون سبب واضح، ولا يوجد رابط بين المحتوى الرئيسي لهذه المحاضرة وبين هذا التعرض، ويبدو أن السيد المجالي لا يؤمن باختلاف الآراء والتفاوت في تقييم السياسات، ولا يرغب بالتعامل مع التعددية السياسية، وهو بهذا يقول ان كل من له رأي مخالف لسياسات الحكومة، فإنه أصبح معادياً أو معارضاَ أو إنتهازياً، هذا تأويل ظالم لآراء وتصرفات وممارسات وتاريخ العديد من الشخصيات السياسية الفاعلة.وتحوير ينم عن سوء نية لمعنى ومفهوم الاختلاف السياسي، وإقحام الاختلاف مع النظام والقيادة أمر لا وجود ولا أساس له، وهذه أساليب أصبحت بالية ولا تنطلي على أحد.
- صنفت المحاضرة الأردنيين من أصل فلسطيني إلى صنفين: الأول هم اللاجئون منذ عام 1948، والثاني هم من أتوا من الضفة الغربية وغزة قبل وبعد عام 1967، وتكرم السيد المجالي على لاجئي عام 1948 بإعطائهم صفة المواطنة 100% (لصعوبة عودتهم إلى أرضهم التي أصبحت إسرائيل)، وبهذا يكون قد ألغى مبدأ حق العودة أو التعويض الذي يتمسك به كل فلسطيني وأردني وعربي، من حيث المبدأ، وحتى من منطلق التفاوض. وأقر مبدأ التوطين الذي هو مطلب إسرائيلي.
أخطر ما قاله السيد المجالي، وأعتقد أنها الفكرة الرئيسية والمستهدفة من المحاضرة، هي الفقرة التي تتعلق بالأردنيين من أصل فلسطيني ممن أتوا من الضفة الغربية وقطاع غزة قبل وبعد عام 1967 والموجودين حالياً على الأرض الأردنية، فالسيد المجالي يقول إنه يتحدث عن الحقوق السياسية لهؤلاء وممارستهم لها في الاردن، ويعتقد أنه على هؤلاء أن يمارسوا حقوقهم هذه في فلسطين، (ومن يريد أن يبقى أردنياً فعليه أن يطلب ذلك... وهناك يحصل إعادة تثبيت للهوية وللولاء). ومن لا يصدق عينيه واذنيه بأن هذا الكلام قد نطقه السيد عبد الهادي المجالي، عليه مراجعة المحاضرة المنشورة في الصحف اليومية بتاريخ 21/1/1997.
دعوني أقول للسيد المجالي ولكل من يمثلهم بأن التلاعب بالحقوق الأساسية لأي مــــواطن ومنها حقه في جنسيته ومواطنته وحقه في ملكيته أمر خطير وغير دستوري، وله أبعاد كبيرة ولن يبقى دون ردود فعل، وإذا ما تم الإخلال بواحد من الحقوق الأساسية، فسوف تنهار كل المسلمات والثوابت والأسس القانونية التي هي عماد كل مجتمع، وسوف يدمر مبدأ سيادة القانون ويتآكل النسيج الاجتماعي والاقتصادي، هذا أمر خطير أتمنى على كل مواطن صالح أن يتعمق في معانيه وأبعاده ومراميه أيضاً، إن مثل هذا الكلام يأتي في وقت تواجه فيه عملية السلام مصاعب كبيرة، ولا توجد ضمانات بأنها سوف تسير حسب المعايير الفلسطينية والعربية والشرعية الدولية، وفي وقت نناضل جميعاً من أجل تفعيل الاقتصاد الاردني، واجتذاب رؤوس الأموال العربية والاجنبية، ويأتي في وقت يبلغ التشرذم الداخلي أبعاداً لم يشهدها الأردن قط، ليس بسبب ازدواجية الولاء بل بسبب تداعيات السياسات الداخلية البحتة، في وقت نرى فيه أمامنا كيف أن الصراعات الداخلية وتحلل المجتمعات العربية تؤدي باستمرار إلى العنف وإسالة الدماء وتدمير النسيج الاجتماعي والقضاء على إمكانات التنمية، إننا في مثل هذه الأوقات أحوج ما نكون إلى التماسك والتآلف والتناغم الداخلي.
لقد حصلت تلك الفئـــة من الناس على جنسيتها الأردنية بالطرق القانونية وبالرضى من جميع الأطراف، بعد وحدة تمت بين الضفتين تحقيقاً لمبادىء الثورة العربية الكبرى التي ضحى الهاشميون من أجل تحقيق مبادئها والوصول إلى الوحدة العربية الأوسع، وحصل تعاقد بين الضفتين الشرقية والغربية أصبحت بموجبه الضفة الغربية، بما فيها القدس، أرضاً تقع تحت السيادة الاردنية وضمن أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، وأصبح سكانها مواطنين أردنيين، وعندما ضاعت هذه الارض جراء الاحتلال الاسرائيلي، لم يتم ذلك بإرادتهم أو رضاهم.
وعلى الجميع التفريق بين الأردن وفلسطين من جهة وبين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني على الأرض الأردنية من جهة اخرى، في الحالة الاولى هناك كيانان سياسيان. الأول قائم ومستمر والثاني يتكون، والبحث عن وسائل للجمع والتعاون بين الكيانين أمر مشروع وقومي، أما في الحالة الثانية فإننا نتحدث عن مواطنين ينتمون إلى بلد واحد ويحملون جنسيته، والتزامهم بالدستور والقوانين والنظام السياسي واضح وقائم.
وإنني أرفض، كما يرفض كل مواطن صالح، نقل عملية فك الارتباط القانوني والإداري الذي تم بين الضفتيــــــــن عــــــــام 1988 إلى فك ارتباط داخل الاردن بين (الاردنيين والفلسطنيين).
وأريد أن أسال السيد المجالي، ما هي المعايير التي ستطبق لفرز هؤلاء الناس بين من سيبقى أردنياً، وبين من ستسحب منه حقوقه السياسية في الأردن ويجرد من جنسيته؟ ومن هو الذي سيضع ويحدد هذه المعايير؟
إن هذا الفكر غريب عن طبيعة المجتمع الاردني وعن أهدافنا القومية، وعن مبادىء ونضال قيادتنا الهاشمية، ولا يقال حباً لفلسطين أو دفاعاً عنها، بل لأغراض انعزالية انغلاقية، الأردن بقيادته وشعبه وتكوينه السياسي والنفسي والجغرافي براء منها، وإقحام المجتمع الاردني في مثل هذه السياسات والنظريات وخلق واقع وأولويات مصطنعة لا وجود لها إلا في أذهان البعض، أمر لا ينم عن حصافة سياسية أو تعقل.
وإنني أتساءل لصالح من تطرح هذه الافكار وفي مثل هذا الوقت بالذات، وهل يعقل أن نسمع من سياسي بارز قولاً كهذا في الوقت الذي ينادي فيه جلالة الملك صباح مساء بتآلف الأسرة الأردنيــــة الواحــــدة، ويعمل لأجل ذلك ويعلن أن حقوق الانسان وسيادة القانون هي من مرتكزات وثوابت الدولة الأردنية، وفي الوقت الذي نعمل معه لتوسيع نقاط الالتقاء والقواسم المشتركة داخل المجتمع الأردني وتعظيمها، والقضاء على بؤر التناحر والتصارع، لنصنع مجتمع المحبة والاخاء، وهل يعقل أن سياسياً أردنياً محترفاً يبشر بمثل هذه الافكار ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين ونسير بخطى ثابتة نحو التوحد القومي (والعولمة) ونحو التحالفات الاقتصادية مع الديموقراطيات الغربية.
إنني أطلب في هذا المقال من أجهزة الحكم كافة أن تتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً حول ما يروج وما يدعى له، وأن يقترن هذه المرة القول بالعمل، فقد انتقل هؤلاء من مرحلة التنظير إلى مرحلة الإعلان عن النوايا تمهيداً لمرحلة العمل والتنفيذ لا سمح الله.
وبجهود وتكاتف كل الخيرين والمخلصين، سنحمي الاردن الحبيب من كل شر ومن كل سوء.