تأبين الأستاذ إبراهيم بكر
كلمة ألقيت في منتدى شومان الثقافي بتاريخ 4/5/1997
أجزم لكم أن أخي إبراهيم بكر لن يتحول إلى فعل ماض، ولن يصبح في عداد الغائبين، بل سيظل فاعلاً مرفوعاً على سارية أعماله ونضاله، وسيبقى ماثلاً بيننا يمارس حضوره الدائم ووجوده الحقيقي من خلال مواقفه الشجاعة ومبادئه الوطنية وثوابته الأخلاقية.
أجزم لكم أن إبراهيم المبدأ والخلق والفكر والاجتهاد لم ولن يرحل أو يتوارى أو يسكن تحــت التراب، بل سيبقى علامة فارقة في جبين هذا العصر، ومنارة شامخة من مناراته، وقدوة حسنة تستقطب احترام الأجيال الصاعدة، وقائداً سياسياً بارزاً حفر إسمه في سجل التاريخ.
عاش إبراهيم، صاحب موقف واضح، ورؤية ثاقبة، وإرادة صلبة وعنيــــدة، فقد تميز بالثبات علـــى قناعاته مهما واجه من مصاعب وأزمات، كما تميز ببعد النظر السياسي حتى إنه كان يقرأ الكثير الكثير من الأحداث وهي ما تزال في طور التكوين، ويستشرف الكثير الكثير من المستجدات وهي ما تزال في ضمير المستقبل.
وكــــم اختلف مع رفاقه وأصدقائه لأنه كان يستعير عيني "زرقاء اليمامة" فيــــرى المستقبل قبل رؤيتهم له، ويتشوف البعيد قبل أن يتشوفوه.
عاش أبو فراس "وسيبقى يعيش معارضاً" لا يجد ذاته المسكونة بالقلق إلا في صفوف المعارضة، وبين ظهراني الناقدين المتمردين.
فقد تمرد شابا على قيادة حزبه عقب موافقة الحزب –أو العصبة– على قرار تقسيم فلسطين أواخر الأربعينات، كما انخرط رجلاً في صفوف الحركة الوطنية المعارضة طوال الخمسينات وبعض الستينات، كما لعب كهلاً دور المعارض داخل منظمة التحرير، ومن موقع نائب رئيس لجنتها التنفيذية أواخر الستينات، أما خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات فكان أحد أبرز أركان المعارضة وأقطابها على الساحتين الأردنية والفلسطينية، بل العربية أيضاً.
وكــم كان "أبو فراس" مبدعاً في المزاوجة بين مهنة المحاماة، ومهنة السياسة، فقد وظف كلتيهما للدفاع عن الحــق والانتصار للوطن والمواطن، والوقوف في وجه الظلم الخاص والعام، الداخلي والخارجي.
باختصار... لقد كان محامياً في حقل السياسة، وسياسياً في ميدان المحاماة، وكان وسيبقى في الحالين نصيراً للكادحين والمستضعفين وسكان الشوارع الخلفية.
عاش إبراهيم وسيبقى خلافياً، فهو صاحب فكر سياسي واضح وموقف وطنـــي ثابت، الأمر الذي جلب له الخصوم – وربما الأعداء – من الجهات الأربعة، وعلى مدى خمسة عقود زمنية حافلة بالهزائم والمتغيرات، غير أن أحداً من خصوم "أبي فراس" لم يستطع أن ينال من مكانته المرموقة، أو يشكك في مصداقيته ومبدئيته، أو ينكر عليه أستاذيته ورياديته، أو يخرج من دائرة التقدير والتوقير والاحترام.
أيها الأخوة الحضور،
لعل عظمة أخي إبراهيم قد تجلت في أوضح صورها ومعانيها خلال السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد عقب اشتداد حلكة الليل العربي، وغياب البوصلة القومية والأممية بانهيار الاتحاد السوفياتي، وضرب التجربة العراقية وعقد اتفاقبات أوسلو ووادي عربة.
وكم كان يدهشني كلما زرته وحاورته في شهوره الأخيرة، أن أرى جسده يزداد ضعفاً وهزالاً تحت وطأة المرض العضال... فيما تزداد روحه قــوة وعنفواناً، وتزداد مواقفه وضوحاً وثباتاً وتزداد عزيمته صلابة ومضاء.
وصدقوني أنني ما خرجت من لقاءاته في الشهور الأخيرة، إلا وكانت شفتاي تتمتمان ببيت الشعر العربي القديم:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
رحم الله أخي إبراهيم، غائبنا الحاضر، أو حاضرنا الغائب الذي كان كبيراً في وجوده، وسييقى كبيراً في خلوده.