النهوض من الرماد
مقال نشر في جريدة القدس العربي والعرب اليوم بتاريخ 20/12/1998.
اعتدت أمريكا وبريطانيا على العراق مرة أخرى، وأكرمتنا كعرب ومسلمين أنها بدأت هجومها وأنهته مع حلول شهر رمضان المبارك، وهما قد فعلتا ذلك تطبيقاً للشرعية الدولية واحتراماً للأمم المتحدة وقراراتها. ولدرء خطر العراق المنهك اقتصادياً وعسكرياً عن جيرانه، وزعمتا أن نجاح عدوانهما على العراق ما كان سيتم دون الدعم السياسي والمادي واللوجيستي المقدم من العديد من الدول العربية.
إن حجم الإذلال الذي يواجهه العرب قادة وشعوباً، على يد أمريكا ومعها إسرائيل، لا مثيل له في تاريخ الأمم، ولا في التاريــخ الحديث للعالم، وهو لا يرقى حتى لاستسلام اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.والاعتداء على الكبرياء الوطني للأمة، وعلى سيادتها وشرفها وكرامة مواطنيها ومستقبل أبنائها، وانحدار الأمة إلى هذا الدرك الأسفل، وصل حداً أصبحت الدعوة إلى النهوض من الرماد أمراً حتمياً.
عيب علينا أن يُضرب عراق الحضارة والتراث والعمق والأمل، وأن نقبل بادعاء تطبيق الشرعية الدولية عليه، ونحن نرى أمريكا العاجزة أمام نتنياهو، تفصل هذه الشرعية على مقاس مصالحها، ثم تنتهكها وتسمح لإسرائيل بل تشجعها على فعل ذلك ليل نهار.
وعيب علينا أن يُضرب العراق بحجة درء خطره عن الدول المحيطة به، وكلنا يعلم أن قدرات العراق العسكرية والاقتصادية قد تم تدميرها بعد 8 سنوات من الحصار الكامل وبعد تفتيش مهين لكل زاوية من زواياه من قبل الأمم المتحدة.
وعيب علينا أن تقف روسيا والصين وفرنسا في موقف المدافع عن العراق وحقه في العيش، ونحن العرب لا نُحرك ساكناً، بل يهمس بعضنا في إذن أمريكا بالدعم والتأييد.
وعيب علينا ألاّ يقف عربي واحد يطالب بإقالة ومحاسبة السكير ريتشارد بتلر من منصبه، بينما تتقدم دول عديدة في مجلس الأمن بهذا الطلب وتتهمه بالعمالة.
وعيب علينا أن نقدم التأييد اللفظي للشعب العراقي، ونحتج بكل لطف وأدب على عدوان أمريكا ضد شعب عربي قدم للعرب منذ الزمان الغابر الحضارة والسند والدعم السياسي والاقتصادي في وجه المخاطر، وكان منطلقاً للعمل العربي القومي.
وعيب علينا أن نذكر معاناة الشعب العراقي ونرى أطفاله تموت بالآلاف جوعاً وقهراً ومرضاً، ونحن على موائد الكذب والنفاق والفساد والعمالة.
وعيب علينا أن تبقى الأمة العربية نقطة الضعف الأولى في العالم، يتشاطر عليها الرئيس الأمريكي المثقل بجراح نهمه الجنسي، والمنهزم أمام الكونغرس وأمام نتنياهو.
إن ما يحدث هذه الأيام على الأرض العراقية وعلى الساحة العربية، يوحد المواطنين العرب في كافة أقطارهم، ويحول شعورهم العميق بالظلم والإذلال إلى حقد دفين ومرارة بالغة لا بد أنها سوف تنفجر يوماً في الوجوه، فالأمة العربية من محيطها إلى خليجها تقف عاجزة عن مواجهة الطغيان والظلم والإذلال والعدوان، تماماً كما هي عاجزة عن حماية القدس الشريف ومنع تهويدها بالكامل، إن حجم الغضـــب الشعبي هو أكبر وأعمق مما يظهر على السطح، ولن تجدي محاولات الرسميين والإعلام إخفائه.
الأمر هنا لا يتعلق بالنظام العراقي، بل يتعلق بصميم الوجود العربي عامة والعراقي خاصة، وإنهاء الكيان العربي، وتفتيت شعوبه، والسيطرة على مقدراته، وقتل إمكانية نهوضه وانبعاثه، وتدمير الإرادة العربية والإنسان العربي، هي أهداف معلنة في المشروع الصهيوني طويل الأمد، وتتطابق هذه الأهداف مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة، ويعمل البلدان في تناغم سياسي وعضوي واضح باتجاه تحقيق هذه الأهــداف، وقد حققا فعلاً بعضاً منها، أدوات ووسائل تحقيق ذلك لا تأتي بشكل متشابه أو دوري، بل تأتي حسب الظرف والمكان والحاجة. وحصار العراق وكذلك ليبيا والسودان هو أحد هذه الأساليب والأدوات.ومحاولات التلاعب بحقوق مصر وسوريا المائية في النيل والفرات ودجلة تدور في هذا السياق، أما دول الخليج، فقد امتص الغرب مالها وخيراتها بوسائل متعددة، وخفض اليوم سعر النفط إلى نسب تعتبر أقل مما كان عليه سعر البرميل عام 1920، حتى أصبحت بعض أقطاره تستدين من السوق العالمية، وما انخفاض سعر النفط إلا أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء الازدهار الاقتصادي الذي تشهده الولايات المتحدة منذ سنوات.
لم يبق أمامنا إلا النهوض من الرماد، وأناشد بل أتوسل إلى قيادتنا السياسية أولاً، ورئاسة القمة العربية ثانياً، أن تبادر بكل جدية وحزم للعمل على إعادة اللحُمة إلى العمل العربي المشترك، وعقد قمة عربية هادفة تضعنا على الطريق القومي الصحيح، وتكون بداية النهوض العربي لتكون مهمتها إفهـــام (أولي الأمر) في هذا العالم بإيقاف هذا الإذلال والتلاعب في مصير الأمة، وأن العرب قادة وشعوباً، جاهزون لتبني برنامج نهضوي عربي يعيدنا إلى مصاف الأمم ومنطق العصر، وأقول بكل ثقة وارتيـــاح إن العربي جاهز لذلك، بل هو تواق لهذا وطال انتظاره، وعلى قادتنا أن يقفوا مع شعوبهم أولاً، فالدولة العظمى لا تعرف الرحمة أو الوفاء أو الصداقة، بل تتعامل مع صاحب الموقف القوي والواضح، وتتعامل مع مصالحها. ولتذهب اعتراضات (أولي الأمر) حول عقد القمة العربية إلى الجحيم، فلا شيء بعد الآن يخاف العربي عليه أو منه.
أناشد المواطن العربي في كل أقطاره أن يقوم بواجبه بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ تجاه العراق، وتجاه أمته العربية وتجاه نفسه قبل كل شي. فالخطر ليس على العراق وحده، والموت والدمار لن يكون حكراً على العراقيين وحدهم، ولن يعدم المواطن العربي الوسائل الديموقراطية لإيصال رأيه وموقفه إلى حكامه وإلى العالم أجمع، ولا يمكن لأي حاكم مهما كانت قوته وسطوته فعالة أن يعزل نفسه عن الرأي العام في بلده أو أن يتجاهله.
أما الأمر الثاني فهو واجبنا كعرب أن ندفع باتجاه تبني موقف جديد تجاه العراق يرفع عنه الظلم والمعاناة، يرفع عنه الحصار، ويحمي شعبه وتراثه ووحدة أراضيه، وهذا يتطلب موقفاً شجاعاً من القيادات العربية سينال بالتأكيد دعم الشعب العربي في كافة أقطاره، إن العراق يحتاج إلى أفعال لا أقوال ومواقف واضحة ومعلنة، ويجب أن تكون أولى أولويات القمة العربية الهادفة والعتيدة هي كسر الحصار على العراق.وسنجد أن غالبية شعوب الأرض ستقف مع الموقف العربي ومع شعب العراق وحقه في الوجود وحق أطفاله وشبابه في الحياة، عندها فقط يحترمنا العالم.
أكرر اليوم ما دعوت إليه سابقاً، من حتمية العودة إلى أصولنا وجذورنا، فهذه الأمة –والله-أقدم من حاضرها وأثبت من واقعها.