فلسطين بين الحاضر والمستقبل-"القدس ودائرتها العربية والإسلامية"
ألقي هذا التعقيب في ندوة بعنوان "القدس ودائرتها العربية والإسلامية" في الدوحة 28/10/2000
أبرزت الانتفاضة الأخيرة في فلسطين وما تبع ذلك من ردود فعل في العالمين العربي والإسلامي، وفي المجال الدولي، عدة حقائق قديمة كدنا أن ننساها، أو أن نضع لها مفهوماً او وجهاً جديدا، فقد أعادت الانتفاضة تأكيد الحقائق التالية:
أولا: إن القضية الفسطينية والقدس ما زالت هي لب الصراع العربي الإسرائيلي، وبقي كل الجهد المبذول عربياً وإسرائيلياً وأمريكياً ودولياً لإنهاء هذا الصراع بعيداً عن حل جذري ومقبول للقضية الفلسطينية جهداً عبثياً، ولم تغير دعوات التعايش السلمي واتفاقيات السلام وأشكال التعاون الأخرى بين العديد من الدول العربية وإسرائيل شيئاً على أرض الواقع وفي وجدان كل عربي ومسلم، وانهارت في أيام قليلة كل تلك الصورة الخادعة وظهر واضحاً أننا كنا نعيش في وهم السلام، وتم إعادة تعريب القضية الفلسطينية برمتها بما فيها القدس.
ثانياً: مازال المشروع الصهيوني الذي يؤمن أن كل فلسطين هي أرض إسرائيل وأرض الميعاد قائماً ودون تغيير أساسي عليه، لقد أخذت ترجمة هذا المشروع أشكالاً مختلفة حسب الظروف وإمكانيات التحقيق، ومن هذه الأشكال الاستيطان المكثف في كافة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، واستعمال العنف بدرجات متعددة في قمع الانتفاضات المتتالية أيام اسحق رابين وشمعون بيريز وبنيامين نتنياهو وأيهــــود باراك، والوصول إلى حلول منفردة عبر عقد اتفاقيات السلام مع الدول العربية واحدة بعد الأخرى، ومحاولة إخراج تلك الدول من التزامها تجاه القضية الفلسطينية، وانهارت جميع تلك المحاولات مرة واحدة وأظهرت الجماهير العربية بشكل قاطع التزامها الوقوف مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وعاد التركيز العربي الشعبي والرسمي على مقاومة المشروع الصهيوني ورفضه.
ثالثا: ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية كما كانت دائماً تشكل عصب الحياة لإسرائيل وتمدها بكل أشكال الدعم المادي والعسكري والسياسي المعنوي، وقد تطورت هذه العلاقات السياسية بينهما خلال السنوات العشرة الماضية حيث أن الموقف الأمريكي تجاه قضايا المنطقة أصبح يعد في إسرائيل ويتم تبنيه في واشنطن على اعتبار أنه الموقف الأمريكي، وقد ظهر ذلك بشكل ملموس خلال رئاسة بيل كلينتون وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن ذكرها عبر مواقف وتوجهات وتصرفات مادلين أولبرايت ودنيس روس، ومن خلال التعامل مع الوفد الفلسطيني في كامب ديفيد وشرم الشيخ، وما ظهر من الموقف الأمريكي تجاه الانتفاضة الأخيرة والتعامل معها، فقد ذهبت سدى كل جهود الزعماء العرب الهادفة إلى تغيير الموقف الأمــريكي تجاه إسرائيل لصالح العرب من خلال إظهار حسن النوايا وحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، وحتى القبول بعقد الاتفاقيــــات المجحفة في بعض الأحيان مع إسرائيل، والتجاوب مع رغباتها وتحركاتها. وعطلت الولايات المتحدة لسنوات انعقاد القمة العربية ليس فقط لإبقاء الحصار على العراق ولكن للقضاء نهائياً على أية إمكانية لقيام عمل عربي مشترك وإضعاف مؤسساته وعلى رأسها القمة العربية خـــدمة لإسرائيل ومصالحها، والقمة التي عقدت مؤخراً في القاهرة لم تعقد برضى ومبادرة الزعماء العرب، بل عقدت بسبب الضغط الشعبي الهائل عليهم.
رابعا: بعد انفصال طويل فرضته ظروف إنشاء دولة إسرائيل ولأسباب أخرى، التحم الجسم الفلسطيني بأجزائه الثلاث في الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل، وأصبح جسماً واحداً ومتصلاً ومتشاركاً إلى حد كبير في كل الهموم والطموحات، وهذا تطور هام أظهرته بل أفرزته الانتفاضة: ووجود هذا الجسم المتلاحم يعني أن هناك حوالي 3.8 مليون عربي فلسطيني على أرض فلسطين، مقابل 5 ملايين يهودي إســـرائيلي، وهذا العامل الديموغرافي ذو أبعاد إستراتيجية بعيدة المدى، تعرفه إسرائيل وتشعر به منذ زمن، وتسير إسرائيل الآن برغبتها وعن سابق قصد وإصرار نحو خلق نظام التمييز العنصري (الأبارثايد) تجاه العرب الفلسطينين مواطني الدولة، ووجود أخي عزمي بشارة معنا اليوم وكلامه يؤكد هذه الحقيقة.
يقال دائماً ان منطقة الشرق الأوسط منطقة الفرص الضائعة، لذلك سعت الولايات المتحدة، مباشرة بعد انتهاء حرب الخليج من أجل استغلال الفرصة الذهبية التي أتاحتها الحرب وتداعياتها على الوضع العربي، فقررت جمع العرب وإسرائيل على طاولة المفاوضات.
وحينمــا انعقد مؤتمر مدريد في اكتوبر عام 1991، كانت كل الأطراف المشاركة فيه تأمل بل وتهدف أن يكون انعقاده خطوة نحو إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي، من خلال جعل هدف المفاوضات النهائي بعيد المدىاقتلاع بذور الصراع من تربة الشرق الأوسط الخصبة بالحروب والنزاعات متعددة الجوانب، ويتاتى ذلك بتحقيق معادلة تنجز المصالحة التاريخية بين إسرائيل والعرب عامة، والفلسطينيين خاصة، وتقود إلى الاعتراف المتبادل بين الأطراف كافة والشعب الفلسطيني خاصة، وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يكفل للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية، وتخلي إسرائيل عن أهدافها التوسعية خاصة في فلسطين، وانسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 67، وقبول الفلسطينيين والعرب بإسرائيلوالاعتراف بها، والتعامل معها ومنحها حدوداً آمنة، هذه هي المعادلة الصعبة والمتناقضة في بعض الأحيان والتي أرادت الأطراف بناءها، ومن خلال ما ظهر من مفاوضات كامب ديفيــد الأخيرة وما أفرزته انتفاضة الأقصى، فقد بات واضحاً ان هذه المعادلة قد انهارت بشكل شبه كامل، ولم يشفع لها التقدم الذي حصل في المسارات الأردنية والفلسطينية واللبنانية، وعلى مجمل العلاقات العربية الإسرائيلية، كما أنه لا تزال هناك معطيات أساسية تشير إلى أن هذا الصراع لن ينتهي في المستقبل المنظور.
وبقيت المفاوضات بين الأطراف العربية وإسرائيل عام 1991 منذ بدئها بين مد وجزر وبالطريقة التي نعرفها جميعاً ولا أجد داعياً لسرد تفاصيلها هنا، وانضم الأردن إلى مصر في توقيع اتفاقية سلام رسمية مع إسرائيل، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ووقعت معها اتفاقية اوسلو، وانسحبت إسرائيل من لبنان، وتم تبادل تمثيل دبلوماسي بدرجات متفاوتة بين إسرائيل ودول عربية عديدة، ومن ضمنها دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي، غير أن ذلك كله لم يؤد بعد إلى إيجاد سلام حقيقي بين إسرائيل وجيرانها العرب، حتى مع أولئك الذين وقعوا معها اتفاقيات سلام، إسرائيل تعي هذا الأمر وكذلك العرب والعالم، وانتفاضة الأقصى كشفت ذلك بكل وضوح.
السلام المطروح سيكون مصالحة سياسية أو تسوية سلمية، وليس مصالحة تاريخية، أو إنهاء للنــزاع العربي الإسرائيلي وفي تقديري، سيتحول الصراع الذي أخذ أشكالاً عسكرية خلال حقبة من الزمن.ثم أخذ شكل الصراع السياسي أحياناً أخرى،سيتحول أشكال اخرى من الصراع، وستكون أدواته العلم والتكنولوجيا والتفوق الاقتصادي، وما سنشهده مستقبلاً هو شكل من أشكال التعايش السلمي، فالسلام الكامل غير ممكن، كما أن الحروب واسعة النطاق لم تعد مقبولة، وليس في السياسة الإقليمية والدولية ما هو أخطر من حالة حرب توقفت دون سلام حقيقي عادل، إذ أن الانفجار يبقى ممكناً في أية لحظة لأن أسبابه كامنة في الطبيعة المائلة للاستسلام، وأستند في قولي هذا على الأسباب التالية:
أولا: ما زال جوهر القضية الفلسطينية وهو الأرض، معلقاً دون حل، بل إن الأرض الفلسطينية عرضة كل يوم لعمليات النهب والاستيلاء والمصادرة، ولم تظهر إسرائيل لغاية الآن أي نية لتغيير نظرتها تجاه أرض فلسطين، فالعقيدة اليهوديةوالمشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية، تؤمن بأن كل أرض فلسطين هي إسرائيل، وكل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية ما زالت تؤمن بذلك ومتمسكة به، وما مبدأ الاستيطان في الأراضي الفلسطينية الذي تبنته كل الحكومات الإسرائيلية، إلا تعبير واقعي وملموس عن هذه الحقيقة، وكما استوطنت إسرائيل الأرض، استوطنت الاقتصاد وربطته بها، وأكمل الأمران بعضهما بعضاً.
وقــــد أظهرت مباحثات كامب ديفيد وما تبعها، أن إنشاء الدولة الفلسطينية أصبح ضرورة إسرائيلية، كما هو ضرورة فلسطينية وعربية ودولية، له أسبابه وأغراضه ودوافعه، وقبول إسرائيل بالدولة الفلسطينية المستقلة يقع ضمن إستراتيجيتها للعمل المرحلي الذي اتبعته الحركة الصهيونية والدولة اليهودية منذ إنشائهما، وهي بذلك تعتبر أن وجود الدولة الفلسطينبة أمر مؤقت تفرض الظروف قبوله، ولهذا ستعمل إسرائيل بل هي مصرة على إبقاء العديد من مظاهر السيادة تحت سلطتها المباشرة أو غير المباشرة، وكل من يزور الضفة الغربية سيكتشف بسرعة حجم الاستيطان الإسرائيلي الكبير، وكيفية توزيعه وفق تخطيط استراتيجي واضح، خاصة في القدس وأكنافها، كما سيدرك أن الاستيطان قد خلق واقعاً على الأرض لا يمكن إنكاره أو التراجع عنه، ويشكل ورقة هامة وضاغطة في يد إسرائيل لمواجهة المفاوض الفلسطيني عندما يطالب بالانسحاب أو السيادة، وفرضت إسرائيل أمراً واقعاً مؤلماً في القدس، فقد ضمت إليها 23% من الأراضي المحتلة منذ عام 67، وأسكنت فيها ما يزيد عن 180 الف مستوطن يهودي.وقد أصبحت هذه المناطق في المنظور الإسرائيلي جزءًا من القدس الكبرى، العاصمة الأبدية لإسرائيل والخاضعة لسيادتها، وبالتالي فهي خارج نطاق التفاوض.
إن إسرائيل متمسكة بضم المستوطنات وسكانهاوجميع الطرق الالتفافية الواصلة بين المستوطنات ببعضها البعض، وبين إسرائيل وتلك المستوطنات، وكذلك شريط أمني عريض على طول نهر الأردن، وبهذا فإن الدولة الفلسطينية العتيدة ستكون مقطعة الأوصال، منقطعة عن أي من أشقائها العرب، هذا هو التفكير والتخطيط الإسرائيلي تجاه الأرض الفلسطينية وتجاه مستقبل فلسطين، وهو تخطيط لا يمكن أن يوحي بأي حسن نية أو برغبة في الوصول إلى حل عادل ومتوازن على الأرض الفلسطينية.
ثانياً: ما زالت إسرائيل ترفض مبدأ حق العودة للاجئين الفسطينيين، وأسباب رفض إسرائيل واضحة ومعروفة، أهمها رغبتها في المحافظة على نقاء الصفة اليهودية للدولة.
إن العامل الديموغرافي في فلسطين وإسرائيل لا يميل لصالحها، وعليها ان تواجه تبعات وعواقب هذا العامل عاجلاً فاليوم، يعيش على أرض ما يسمى (بفلسطين الانتداب) خمسة ملايين يهودي إسرائيلي مقابل 3.8 مليون عربي فلسطيني، وسوف يتساوى عدد اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين في العام 2025، وقد تعلمت إسرائيل درساً قاسياً حيث سمحت ببقاء 240 الف فلسطيني بعد عام 1948، ليصبحوا اليوم أمراً يؤرقها ومواطنيها اليهود، إذ أصبح هؤلاء يشكلون 18% من السكان، ويزداد نفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانتخابي، والتجمعات الفلسطينية الثلاث ملتزمون كلهم بهويتهم الفلسطينية العربية الإسلامية، لا بالمشروع الصهيوني او الأهداف السياسية للدولة الإسرائيلية.
ثالثا: هناك تناقض جذري ومستمر بين المشروع الصهيوني والمشروع القومي العربي، وقد بدأ المشروعان في التبلور نهايات القرن التاسع عشر، غير أن النجاحات التي حققها المشروع الصهيوني بإنشاء دولة إسرائيل عام 48 واحتلالها لباقي الأراضي الفلسطينية عام 67، قابلتها إخفاقات كبيرة في المشروع القومي العربي، لهذا ما زال شعور العداء بين العرب واليهود قائماً، وعبارة مؤسس الصهيونية هرتزل التي جهر بها في مطلع القرن العشرين، حيث قال : "نحن اليهود بحاجة إلى عداء دائم لرفع مقومات الشخصية اليهودية" ما زال معمولاً بها، ولا زال الفكر الصهيوني وأيدلوجيته القائمة على التوسع والاستيطان هو المسير للدولة الإسرائيلية،ومازالت الرافعة الأساسية للكيان هي العقيدة الأمنية. وهي الفلسفة التي توجه المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وخاصة العسكرية منها، كذلك ما زال شعور العرب بالعداء تجاه إسرائيل قائماً، فالإنسان العربي مؤمن ومقتنع أن إسرائيل سلبت فلسطين من أهلها، وأنها اقتطعت من جسم كل عربي ومسلم جزءًا منه، ولن يقبل أحد أن يصبح مسرى الرسول الكريم وأولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين القدس، درة فلسطين وزهرة المدائن، مدينة يهودية، كما أن مواطناً عربياً واحداً لا يقبل التنازل عن 14 قرناً من التراث الإسلامي و 50 قرناً من التراث العربي فيها.بالإضافة إلى هذا العامل الديني، فإن العامل القومي والوطني يقوم بدور مماثل. الإنسان العربي ما زال يحلم بإنشاء النظام العربي الذي يجمع أقطار العرب في مشروع وحدوي يبدأ اقتصادياً لينتهي سياسياً، ويشعر بعمقه الحضاري والتراثي، ويرى كل يوم مخاطر المشروع الصهيوني على كيانه ودينه، مع كل هذا يعتقد أن إسرائيل لا تمت للمنطقة أو تراثها أو تاريخها أو هويتها الدينية أو الأمنية أو الوطنية بصلة، ويشعر اليهودي الإسرائيلي الشعور نفسه تجاه العرب، لذلك، نرى أن الهدف الإسرائيلي الرئيسي هو إبقاء إسرائيل في وضع متفوق جداً على كل جيرانها العرب مجتمعين، عسكرياً واقتصادياً وعلمياً، وبنت وبمساعدة الحركة الصهيونية ويهود العالم شبكة هائلة تدعم إسرائيل لدى البلدان التي تعمل وتقيم فيها هذه الشبكات، مما أسهم في تضخيم مشاعر القوة والعظمة والتسلط، وكذلك الانغلاق والانطواء للداخل، وبالرغم من كل ما حصلت عليه إسرائيل من مال وسلاح ودعم، فإن مواطنيها ما زالوا يشعرون بخوف من المستقبل، ولا زال شعار الحصول على حدود آمنة وعلى الآمن هو الهاجس في نفس كل إسرائيلي.
تبقـــى حقيقة قائمة ولا يمكن تجاهلها، وهي أن الشخصية العربية أكثر قدرة على التعايش مع الآخر.والتاريخ العربي الإسلامي يدل على قدرة هذه الشخصية على استيعاب العدو. الشخصية العربية تملك الموروث التاريخي والتنوع الثقافي وتشعب المصالح وتكاملها إلى جانب انفتاح هذه الشخصية على الآخرين، وهذه المكونات نقاط قوة الشخصية العربية وهي في المقابل نقاط ضعف الشخصية الإسرائيلية.
رابعاً: ما زالت إسرائيل تعملوبكل الوسائل على إضعاف الدول العربية، والعرب يدركون ذلك، ويشعرون به مواطنين وحكاماً، إن أخطر ما تقوم به إسرائيلأنها تعمل على تطويق العالم العربي من خارجه، فنراها تتحالف مع تركيا المتحكمة بالشريان المائي الحياتي في كل من سوريا والعراق، وتسعى لإثارة المشاكل بين مصر والدول التي يمر بها نهر النيل، كما أنها تتحالف مع أرتيريا تمهيداً لإيجاد موطىء قدم لها على أجزاء من البحر الأحمر، لتستطيع من خلاله التحكم في الملاحة القادمة من باب المندب والتأثير في بلدان عربية مثل اليمن.
إن تغلغل إسرائيلبشتى الطرق والأساليب، في الدول المحيطة بالعالم العربي يعطيها ميزة عسكرية هامة جداً، تستطيع من خلالها تهديد بلدان عربية في إفريقيا وآسيا والخليج العربي وبالتالي، فإن المواطن العربي يشعر أن إسرائيل تهدد أمنه الوطني ولن يطمئن إلى حسن نواياها.
على أننا لا نستطيع أن نتجاهل ضمن هذا الاستعراض لمستقبل فلسطين، أهمية وأثر التغييرات والتحالفات الدولية المتوقعة خلال الخمسة عشر عاماً القادمة، والتي أعتقد أنها سوف تؤثر بشكل ظاهر في سير الأحداث في المنطقة.
واضح لنا أن محاولات تجري في أقاليم أخرى من العالم تعمل نحو خلق نوع من التوازن، وأقدر أنه خلال عقديـــن من الزمن سيصبح الاتحاد الاوروبي أكثر اتساعاُ وتماسكاً، وبالتالي سيكون منافساً حقيقياً، ولا أقول معادياً للولايات المتحدة، في المجالات السياسية والاقتصادية، ومع أن مظاهر هذا التنافس الودي تظهر بشكل خجول إلا أنها ستؤدي عاجلاً أم آجلاً لاستقلالية القرار أو التوجه الأوروبي. أما أول مظاهر هذا الاستقلال هو ظهور العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) بداية العام القادم، وسوف تكــون عمــلة قوية تنافس الدولار بشكل حقيقي، وسيتزامن ذلك مع بروز الصين، أكثر من أي وقت مضى، كقوة لا يمكن تجاهلها، فالصين تتقدم بخطوات حثيثة نحو بناء قوة اقتصادية وعلمية كبيرة، ولا بد أن ينعكس هذا النمو إيجاباً على دورها السياسي الذي سيلعبه على الساحة الدولية بشكل أكبر خلال الحقبة القادمة.وسيكون أثر ذلك واضحاً في آسيا أولاً، وفي باقي أنحاء العالم ثانياً، ويتزامن ذلك مع نهوض الشعور الوطني الروسي، الذي سيعمل على إخراج روسيا من قلقها الحالي ومن حالة المهانة والذل التي تعاني منها، وإعادتها إلى دورها ووزنها الدولي الذي كانت تتمتع به قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، إن روسيا تدرك الآن أن عليها أن تعود كما كانت، قوة عالمية فعالة ومهابة.
إن بروز هذه القوى -إن تم-سيكون على حساب قوة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسوف تحاول كل من القوى الجديدة لأسبابها الخاصة، وتبعاً لظروف إقليمها وأوضاعها الداخلية وبدرجات متفاوتة، تغيير موازين القوى لتأخذ حصتها التي تستحق.
إن معادلة النزاع العربي الإسرائيلي وفق ما تحدثنا به، وهذا الخلل البين والتنافر بين أطراف النزاع والأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى لكل منهما، تحتم علينا أن ننظر للمستقبل بطريقة مختلفة، وأن نعيد تقييم كل مناحي حياتنا، أمران أساسيان لا بد أن نقوم بهما لمواجهة هذا المستقبل لنجد لأنفسنا مكاناً في العالم وبين الأمم: الديموقراطية والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، أو حتى بين أقطار كل إقليم عربي، هذه هي سمة القرن الحادي والعشرين، وسمة عصر العلم والتكنولوجيا والتكتلات الاقتصادية الكبرى، والدولة الوطنية لا تستطيع وحدها تلبية حاجات مواطنيها ومجتمعها، بينما التكامل الاقتصادي بين الدول هو الكفيل بذلك، كما نؤكد أنه لا خيار أمام العالم سوى الخيار الديموقراطي وبناء مؤسسات المجتمع المدني.
خلاصة القول إن الصراع العربي الإسرائيلي لن ينتهي بسرعة أو بسهولة أو قريباً.