الرؤية المستقبلية للمنطقة بعد التسوية السلمية
ألقيت هذه الكلمة في المجمع الثقافي ابو ظبي بتاريخ 7/5/2000
يقال دائماً إن منطقة الشرق الاوسط منطقة الفرص الضائعة، لذلك سعت الولايات المتحدة مباشرة بعد انتهاء حرب الخليج من أجل استغلال الفرصة الذهبية التي أتاحتها الحرب وتداعياتها على الوضع العربي، فقررت جمع العرب وإسرائيل على طاولة المفاوضات.
وحينمــا انعقد مؤتمر مدريد، في أكتوبر عام 1991، كانت كل الأطراف المشاركة فيه تأمل بل وتهدف أن يكون انعقاده خطوة نحو إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي من خلال جعل هدف المفاوضات النهائي وبعيد المدى اقتلاع بذور الصراع من تربة الشرق الاوسط الخصبة بالحروب والنزاعات متعددة الجوانب، ويتأتى ذلك بتحقيق معادلة تنجز المصالحة التاريخية بين إسرائيل والعرب عامة، والفلسطينيين خاصة، وتقود إلى الاعتراف المتبادل بين الأطراف كافة وبالتحديد الشعب الفلسطيني، وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يكفل للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية، وتخلي إسرائيل عن أهدافها التوسعية خاصة في فلسطين، وانسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 67، وقبول الفلسطينيين والعرب بإسرائيل والاعتراف بها، والتعامل معها ومنحها حدوداً آمنة، هذه هي المعادلة الصعبة والمتناقضة في بعض الأحيان التي أرادت الأطراف بناءها.غير أنه بعد مرور حوالي 9 سنوات على بدء المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية، لاتزال هذه المعادلة عرضة للانهيار أو التراجع، بالرغم من التقدم الذي حصل في المسارات الأردنية والفلسطينية واللبنانية، وعلى مجمل العلاقات العربية الإسرائيلية، كما أنه لا تزال هناك معطيات أساسية تشير إلى ان هذا الصراع لن ينتهي في المستقبل المنظور.
عندما انعقد مؤتمر مدريد، كان العرب يدركون أن ميزان القوى يميل لصالح إسرائيل بشكل واضح ولأسباب متعددة، أهمها:
- استمرار احتلال إسرائيل لأراضي عربية، سورية، لبنانية، أردنية،إضافة إلى ما تبقى من فلسطين، أي كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، ووضعها تحت سيطرة إسرائيلية كاملة، وقد أعطى هذا الأمر إسرائيل وخاصة ما يتعلق منه بفلسطين قدرة أكبر على المساومة وجعلها في موقف قوي.
- تلازم المصالح الأمريكية في المنطقة مع إسرائيل، خاصة ما يتعلق بحماية النفط وقبلها ما يتعلق بمحاربة الشيوعية، الأمر الذي أدى إلى استمرار الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، وقد مكنها ذلك من بناء ترسانة عسكرية لا مثيل لها حتى لدى بعض الدول الكبرى، وقاعدة علمية تكنولوجية متقدمة، واقتصــــــــاد نشط متحرك، كما اعتمدت إسرائيل على شبكة واسعة وفعالة بنتها في العالم خاصة في الولايات المتحدة، بالتنسيـــق الكامل والتعاون الأقصى مع الجاليات اليهودية والمنظمات الصهيونية في العالم، مكنتها من التشارك مع مراكز القوى الرئيسية في المجالات السياسية والمال والاقتصاد والإعلام والنشر والتكنولوجيا وغيرها، لتحقيق مآربها وخططها.
- إستمرار أمر تهميش مفهوم الأمة والرابطة القومية قبل وبعد حرب الخليج. وكان هذا في الحقيقة السلاح الأول والأساس الذي استخدمه الغرب وإسرائيل من أجل دفعنا نحو هزيمة السلام. فتراجع بشكل كبير، العمل العربي المشترك ومؤسساته، وعلى رأسها الجامعة العربية. واختفت من القواميس الدولية تعابير مثل العالم العربي والأمة العربية، ليحل مكانها تعابير مثل شمال إفريقيا أو دول الخليج
العربي أو الشرق الأوسط، كما أن مفهوم الاحتفال بالاستقلال أصبح قطرياً، يبعدنا باستمرار عن أشقائنا العرب، وبقربنا من دول الغرب التي ناضلنا للحصول على استقلالنا عنها.
- تزامن انهيار الاتحاد السوفيتي مع انهيار النظام العربي والتضامن العربي أو ما تبقى منه نتيجة لحرب الخليج، وهذان الحدثان أديا إلى انقطاع الدعم السياسي والعسكري والمعنوي الذي كان الاتحاد السوفيتي يقدمه للقضايا العربية، واستنزاف الأرصدة العربية، وتراجع أهميتها وتأثيرها في الاقتصاد العالمي، وبقي القرار الاستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة العرب مركزياً، بينما تفتت القرار العربي الاستراتيجي بشأن النزاع العربي الإسرائيلي بشكل لم يسبق له مثيل، وانعكس ذلك حتى على الاطراف العربية المشاركة في المؤتمر.
وفي الوقت نفسه، اعتمد العرب عند مشاركتهم في مؤتمر مدريد على عناصر القوة العربية التي يمكن أن تضاهي العناصر الإسرائيلية فيما إذا أحسن استغلالها، لقد اعتمدوا على عدالة قضيتهم، وحقهم في تحرير أراضيهم المحتلة، وعلى الشرعية الدولية، وعلى العمق التاريخي والتراثي والحضاري للعروبة والإسلام، وعلى العامل الديموغرافي العربي، وكذلك على حسن النية والوعود الأمريكية بالتدخل الموضوعي أثناء سير المفاوضات.
وسارت المفاوضات بين الأطراف العربية وإٍسرائيل منذ عام 1991 بين مد وجزر وبالطريقة التي نعرفها جميعاً، ولا أجد داعياً لسرد تفاصليها هنا، وانضم الأردن إلى مصر في توقيع اتفاقية سلام رسمية مع إسرائيل، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ووقعت معها أتفاقية أوسلو، كما أن إسرائيل سوف تنســـحب من لبنان خلال شهرين، وتم تبادل تمثيل دبلوماسي بدرجات متفاوتة بين إسرائيل ودول عربية عديدة، من ضمنها دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي، غير أن ذلك كله لم يؤد بعد إلى إيجاد سلام حقيقي بين إسرائيل وجيرانها العرب، وحتى مع أؤلئك الذين وقعوا معها اتفاقيات سلام، إسرائيل تعي هذا الأمر، وكذلك العرب والعالم.
سيكون السلام مصالحة سياسية أو تسوية سلمية، كما يشير عنوان المحاضرة، وليس مصالحــة تاريخية، أو إنهاء للنزاع العربي الإسرائيليوفي تقديري، سيتحول الصراع الذي أخذ أشكالاً عسكرية خلال حقبة من الزمن ثم أخذ شكل الصراع السياسي أحياناً أخرى، وستكون أدواته إلى العلم والتكنولوجيا والتفوق الاقتصادي، وما سنشهده خلال المستقبل هو شكل من أشكال التعايش السلمي.فالسلام الكامل غير ممكن، كما أن الحروب واسعة النطاق لم تعد مقبولة وليس في السياسة الإقليمية والدولية ما هو أخطر من حالة حرب توقفتبسلام حقيقي عادل، إذ إن الانفجار يبقى ممكناً في أية لحظة لكن أسبابه كامنة في الطبيعة الحائرة للاستسلام. واستند في قولي هذا على المعطيات التالية:
أولاً: لا يزال جوهر القضية الفلسطينية وهو الأرض، معلقاً دون حل، بل إن الأرض الفلسطينية عرضة كل يوم لعمليات النهب والاستيلاء والمصادرة، لم تظهر إسرائيل لغاية الآن أي نية لتغيير نظرتها تجاه أرض فلسطين، فالعقيدة اليهودية والمشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية، تؤمن بأن كل أرض فلسطين هي إسرائيل، إنها أرض الميعاد وكل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية ما زالت تؤمن بذلك ومتمسكة به. وما مبدأ الاستيطان في الأراضي الفلسطينيةالذي تبنته كل الحكومات الإسرائيلية، إلا تعبير واقعيوملموس عن هذه الحقيقة. فكما استوطنت إسرائيل الأرض فقد استوطنت الاقتصاد وربطته بها، وأكمل الأمران بعضهما البعض، ولهذا فإن إسرائيل لن تقبل بأيسيادة منقوصة للدولة الفلسطينية، إذ أنها تعتبر أن وجودها أمراً مؤقتاً تفرض الظروف قبوله، ويقع ضمن استراتيجية العمل المرحلي الذي اتبعته الحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية منذ إنشائهما، وقد أثبتت سياسة المراحل هذه نجاحها بإنشاء إسرائيل عام 1948 على جزء من أرض فلسطين، وباحتلال الجزء المتبقى منها ووضعه تحت سيطرتها المباشرة منذ عام 1967، وبتبوء إسرائيل مركزاً عالمياً لا يمكن إنكاره.
وبالرغم من أن إنشاء الدولة الفلسطينية أصبح ضرورة إسرائيلية، كما هو ضرورة فلسطينية وعربية ودولية، كل لأسبابه وأغراضه ودوافعه، فإن إسرائيل سوف تعمل على إبقاء العديد من مظاهر السيادة تحت سلطتها المباشرة أو غير المباشرة، وكل من يزور الضفة الغربية سيكتشف بسرعة حجم الاستيطان الإسرائيلي الكبير وكيفية توزيعه وفق تخطيط إستراتيجي واضح، خاصة في القدس وأكنافها، كما سيدرك أن الاستيطان قد خلق واقعاً على الارض، لا يمكن إنكاره أو التراجع عنه، ويشكل ورقة هامة وضاغطة في يد إسرائيل لمواجهة المفاوض الفلسطيني عندما يطالب بالانسحاب أو السيادة، وبذلك تكون إسرائيل قد فرضت أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله في القدس التي ضمتّ إليها 23% من الأراضي المحتلة منذ عام 67، وأسكنت فيها ما يزيد على 180 ألف مستوطن يهودي. وقد أصبحت هذه المناطق في المنظور الإسرائيلي جزءًا من القدس الكبرى، العاصمة الأبدية لإسرائيل والخاضعة لسيادتها، وبالتالي فهي خارج نطاق التفاوض.
إن إسرائيل تعلن عزمها ضم المستوطنات وسكانها، وجميع الطرق الالتفافية الواصلة بين المستوطنات بعضها ببعض، وبين إسرائيل وتلك المستوطنات، وكذلك شريط أمني عريض على طول نهر الأردن. وبهذا فإن الدولة الفلسطينية العتيدة ستكون مقطعة الأوصال، منقطعة عن أي من أشقائها العرب، هذا هو التفكير والتخطيط الإسرائيلي تجاه الأرض الفلسطينية وتجاه مستقبل فلسطين، وهو تخطيط لا يمكن أن يوحي بأي حسن نية او برغبة في الوصول إلى حل عادل ومتوازن على الأرض الفلسطينية.
ثانياً: ما تزال إسرائيل ترفض مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين حتى ولو كانوا بأعداد رمزية بالرغم من أنها تمنح حق العودة لأي يهودي في العالم خلال أيام، وأسباب رفض إسرائيل واضحة ومعروفة، أهمها رغبتها في المحافظة على نقاء الصفة اليهودية للـــدولة، وهذا ما يفسر دعوة باراك للفصل السياسي الكامل بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية.
إن العامل الديموغرافي في فلسطين وإسرائيل لا يميل لصالحها، وعليها أن تواجه تبعات وعواقب هذا العامل عاجلاً، فاليوم يعيش على أرض ما يسمى (بفلسطين الانتداب خمسة ملايين يهودي إسرائيلي مقابل 3.8 مليون عربي فلسطيني) موزعين كالتالي: 1 مليون فــي إسرائيل ويحملون الجنسية الإسرائيلية، 1.7 مليون في الضفة الغربية و1.1 مليون في قطاع غزة، وسوف يتساوى عدد اليهود الإسرائيلين والعرب الفلسطينيين في العام 2025. وقــد تعلمت إسرائيل درساً قاسياً حين سمحت ببقاء 240 ألف فلسطيني بعد عام 1948، ليصبحوا اليوم أمراً يؤرقها ومواطنيها اليهود، إذ أصبح هؤلاء المائتان وأربعون ألف فلسطيني يشكلون 18% من السكان، ويزداد نفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانتخابي.
وأفراد التجمعات الفلسطينية الثلاث ملتزمون كلهم بهويتهم الفلسطينية العربية الإسلامية، لا بالمشروع الصهيوني أو الأهداف السياسية للدولة الإسرائيلية.
ولا أعتقد أن إسرائيل سوف تقبل بعودة اللاجئين أو بعودة حتى جزء منهم، لأنها ترى في ذلك مقتلاً لها، وكما هو معلن فإنها لاتزال تتشدد في أمر عودتهم إلى وطنهم ومنازلهم وستبقى كذلك، لأن قبولها بمبدأ حق العودة للاجئين سوف يخل بالتوازن السكاني فيها وبالصفة اليهودية للدولة، لهذا ستعمل إسرائيل بكل طاقاتها، مدعومة من الولايات المتحدة بصفة خاصة، ومن الغرب بصفة عامة، على توطين اللاجئين في أماكن سكناهم. ولعل اللاجئين الذين يعيشون في الاردن هم أوضح مثال على ذلك فاليوم يبلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى منظمة الأونروا عام 1999، 3.6 مليون نسمة، منهم 42% يعيشون في الأردن ويكونون حوالي 35% من سكانه، وجميعهم يحملون الجنسية الأردنية، ويمارسون حقــوقهم السياسية فيها، وقد اختلفت طبيعة المخيمات الفلسطينية منذ إنشائها عام 1948، لتصبح الآن جزءًا من المدن الكبرى مثل عمان الزرقاء وإربد، أو قرى كبيرة قائمة بذاتها، ولأن الأونروا بدأت تتخلى عن الخدمات التي تقدمها للاجئين تدريجياً، فإن الدولة الأردنية أخذت تتولى أمر تقديم هذه الخدمات كالتعليم والصحة، بالإضافة إلى لإيجاد فرص العمل لهم، وأصبح الخوف من التوطين الذي تدعو إسرائيل والولايات المتحدة له جهاراً يخلق في نفوس اللاجئين في الأردن مخاوف حقيقية بأن أمل عودتهم إلى فلسطين يتلاشى باستمرار، وهذا بدوره يخلق في نفوس باقي الأردنيين مخاوف مضادة، تعبر عن نفسها في بعض الأحيان من خلال مواقف سياسية أو محاضرات أو مقالات.
إن وضع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا لا يختلف كثيراً عن وضعهم في الأردن، إلا فيما يتعلق بممارسة الحقوق السياسية، ففي سوريا تبلغ نسبتهم حوالي 10% من مجموع اللاجئين، ويمثلون حوال 2.6% من مجموع سكانها، ويبقى أمر اللاجئين في لبنان، إذ أنه ما زال موضوع شد وضغط داخلي وخارجي، ونسبتهم حوالي 10.5 % من السكان، أما الاربعون من المئة الباقية من اللاجئين، فإنهم يعيشون على أرض فلسطين، في الضفة الغربية وقطاع غزة لا في مدنهم وقراهم الأصلية، وبالتالي فإن موضوع حق العودة بالنسبة إلى هؤلاء لا يطرح بالقوة والوضوح نفسه، وقد يصبح أمر التعويض عنهم هو الأقـــرب إلى التطبيق بينما حق العودة للاجئين المقيمين في الأردن وسوريا ولبنان مازال هو المطلب الأول، وفي كل الأحوال يبدو لي أن مبالغ التعويضات -إن أقرت- ستدفع كمساعدات للدول المضيفة للاجئين لتحسين مستوى معيشتهم، ولن تدفع للأفراد، وهناك دلائل تشير إلىأن مثل هذه المساعدات قد بدأت ترد لتحقيق تلك الأهداف.
نحن في الأردن ندرك تماماً، أن إسرائيل تخطط لتفريغ الضفة الغربية بالذات من سكانها بعد الاتفاق على الوضع النهائي للاراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك على سنوات ومراحل طويلة الأجل، وبوسائل تختلف عن وسائلها التي اتبعتها عام 48 وبعد عام 67، إذ سيكون الترحيل ترغيباً لا قسراً ولهذا، فإننا ننظر بريبة للدعوة لإقامة اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي مع الدولة الفلسطينية قبل أوانه، وقبل نضوج الحل السياسي واختياره، خوفاً من أن تكون هذه العلاقة الوحدوية أداة لتفريغ الأرض الفلسطينية بإخراج سكانها إلى الأردن وأقطار عربية اخرى، ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن الكونفدرالية تأتي ضمن إطار سياسي أمني يجمع الأردن، الأرض والمؤسسات والفلسطينيين بدون الأرض، لذلك فإنني من المنادين بالاتحاد مع الدولة الفلسطينية الناجزة أي الدولة التي تملك السيادة على أرضها ولديها قرارها السياسي، ولديها القدرة والإرادة لبناء مستقبل مواطنيها، وفي ذلك حماية لحقوق الفلسطييين المشروعة، وحماية للأمن الوطني الأردني والفلسطيني، ولست من المنادين بإقامة علاقة تريح إسرائيل من تبعات وتداعيات الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية الذي تسعى لأجل تحقيقه، بل مع المنادين بإقامة علاقة مبنية على أساس أن المستقبل في فلسطين يحفظ وينمي الحق والهوية الفلسطينية، ولا أريد لإسرائيل أن تصدر أزمتها نحو العلاقة الأردنية الفلسطينية وتتهرب من مسؤولياتها تجاه الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية ومستقبلها.
ثالثاً: هناك تناقض جذري ومستمر بين المشروع الصهيوني والمشروع القومي العربي، وقد بدأ المشروعان في التبلور نهايات القرن التاسع عشر، غير أن النجاحات التي حققها المشروع الصهيوني بإنشاء دولة إسرائيل عام 48 واحتلالها لباقي الاراضي الفلسطينية عام 67، واجهتها إخفاقات كبيرة في المشروع القومي العربي. لهذا ما زال شعور العداء بين العرب واليهود قائماً، وعبارة مؤسس الصهيونية هرتزل التي جهر بها في مطلع القرن العشرين، حين قال:"نحن اليهود بحاجة إلى عداء دائم لرفع مقومات الشخصية اليهودية" ما زال معمولاً بها، ولا يزال الفكر الصهيوني وأيدلوجيته القائمة على التوسع والاستيطان هو المسير للدولة الإسرائيلية، ولا تزال الرافعة الأساسية للكيان هي العقيدة الأمنيـــة، وما تزال هذه الفلسفة توجه المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وخاصة العسكرية منها، كذلك ما زال شعور العرب بالعداء تجاه إسرائيل قائماً. فالإنسان العربي، مؤمن ومقتنع أن إسرائيل سلبت فلسطين من أهلها، وأنها اقتطعت من جسم كل عربي ومسلم جزءًا منـــه، ولن يقبل احد أن يصبح مسرىالرسول الكريم وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، القدس، درة فلسطين وزهرة المدائن مدينة يهودية، كما أن مواطناً عربياً واحداً لا يقبل التنازل عن 14 قرناً من التراث الإسلامي و50 قرناً من التراث العربي فيها، بالإضافة إلى العامل الديني، فإن العامل القومي والوطني يقوم بدورٍ مماثل، الإنسان العربي ما زال يحلم بإنشاء النظام العربي الذي يجمع أقطار العرب في مشروع وحدوي يبدأ اقتصادياً لينتهي سياسياً، ويشعر بعمقه الحضاري والتراثي، ويرى كل يوم مخاطر المشروع الصهيوني على كيانه ودينه، وهو مع كل هذا يعتقد أن إسرائيل لا تمت للمنطقة أو تراثها أو تاريخها أو هويتها الدينية او الأمنية أو الوطنية بصلة، ويشعر اليهودي الإسرائيلي الشعور نفسه تجاه العرب، لذلك نرى أن الهدف الإسرائيلي الرئيسي هو إبقاء إسرائيل في وضع متفوق جداً على كل جيرانها العرب مجتمعين: عسكرياً واقتصادياً وعلمياً، وبنت وبمساعدة الحركة الصهيونية ويهود العالم شبكة هائلة تدعم إسرائيل لدى البلدان التي تعمل وتقيم فيها هذه الشبكات، مما أسهم في تضخيم مشاعر القوة والعظمة والتسلط، وكذلك الانغلاق والانطواء للداخل، وبالرغم من كل ما حصلت عليه إسرائيل من مال وسلاح ودعم فإن مواطنيها لا يزالون يشعرون بخوف من المستقبل، وما زال شعار الحصول على حدود آمنة وعلى الأمن هو الهاجس في نفس كل إسرائيلي.
هذا هو السبب الذي دعا بعض الأنظمة العربية والسياسيين إلى للتصريح بأن أفضل طريقة لامتصاص هذه الهواجس والعقد من نفوس الإسرائيليين هي بالانفتاح السريع عليهم والتطبيع معهم، وأقصد هنا ما اصطلح على تسميته بالهرولة نحو إسرائيل.
وأسهمت الأنظمة العربية في تأجيج روح العداءتجاه إسرائيل. فعمدت على مدى خمسين عاماً في بناء العقيدة السياسية والعسكرية على أساس أن العدو هو إسرائيل، واستعملت ذلك غطاء لبناء الجيوش الكبيرة وتسليحها، وأسكتت المعارضة ورفضت السير نحو البناء الديموقراطي والمؤسسي، فبقيت كثير من الدول العربية تحت الحكم العرفي عقود طويلة تحت هذا الغطاء أو الحجة، ولا ننسى الدور الهام الذي لعبته الأحزاب القومية والعقائدية في تعنت الموقف ضد إسرائيل.
تبقى حقيقة قائمة ولا يمكن تجاهلها، وهي أن الشخصية العربية أكثر قدرة على التعايش مع الآخر، والتاريخ العربي الإسلامي يدل على قدرة هذه الشخصية على استيعاب العدو، الشخصية العربية تملك المــوروث التاريخي والتنـــوع الثقافي وتشعب المصالح وتكاملها إلى جانب انفتاح هذه الشخصية على الآخرين، وهذه المكونات نقاط قوة الشخصية العربية، وهي في المقابل نقاط ضعف الشخصيـــة الإسرائيلية.
رابعاً: ما زالت إسرائيل تعمل وبكل الوسائل على إضعاف الدول العربية، والعرب يدركون ذلك ويشعرون به مواطنين وحكاماً، إن أخطر ما تقوم به إسرائيلأنها تعمل على تطويق العالم العربي من خارجه، فنراها تتحالف مع تركيا المتحكمة بالشريان المائي الحياتي في كل من سوريا والعراق، وتسعى لإثارة المشاكل بين مصر والدول التي يمر بها نهر النيــــل، كما أنها تتحالف مع أرتيريا تمهيداً لإيجاد موطىء قدم لها في بعض جزر البحر الأحمر، لتستطيع من خلاله التحكم في الملاحة القادمة من باب المندب والتأثير في بلدان عربية مثل اليمن.
إن تغلغل إسرائيل بشتى الطرق والأساليب في الدول المحيطة بالعالم العربي يعطيها ميزة عسكرية هامة جداً، تستطيع من خلالها تهديد بلدان عربية في إفريقيا وآسيا والخليج العربي، وبالتالي فإن المواطن العربي لن يطمئن إلى حسن نوايا إسرائيل طالما أنه يدرك أهدافها التوسعية.
إن الزخم الذي نشهده باتجاه حل النزاع العربي الإسرائيلي سيتبلور بشكل محدد وملموس خلال الأربع سنوات القادمة وبالتالي، فإن خريطة المنطقة السياسية ستتغير بشكل جذري والمشاركة السورية المتوقعة في هذا الزخم أو عدمها، سيكون لها تأثير بالغ على مجرى الأحداث، فإذا نجحت إسرائيل في فصل المسارين السوري واللبناني عن بعضهما، بإتمام انسحابها إلى الحدود الدولية اللبنانية، ودون الوصول إلى اتفاق مع سوريا، فإنها بذلك سوف تفتح الباب واسعاً أمام تطورات وتفاعلات غير متوقعة في المنطقة، مما يدفع سوريا إلى التحرك لتثبت لكافة الأطرافأن في يدها أوراقاً هامة للضغط على إٍسرائيل وعلى الولايات المتحدة، ولتثبت لكليهما أن مفتاح السلام سيبقى بيد سوريا، وأنها بإمكانها فتح أبواب العالم العربي أمامهــا، أما هذه الأوراق فبعضها موجود في لبنان، وبعضها الآخر موجود في الضفة الغربية وغزة، وأقلها موجود في سوريا نفسها.
أمـــا إذا تم الاتفاق بين سوريا وإٍسرائيل، فإن أموراً كثيرة سوف تتغير وسوف تميل المنطقة الى التهدئة، وإنني أجهل أثر الوضع العراقي السياسي الحالي أو المستقبلي على شكل ونوعية وتوقيت التسوية السياسية القادمة وبالتأكيد، فإن دخول العراق على خط التسوية السلمية أمر مطلوب جداً، وما الحصار الظالم المفروض عليه إلا تعبير عن هذا الوضع، وقد بذلت قيادات عربية في الماضي القريب محاولات من أجل رفع الحصار عن العراق مقابل انخراطه في خط التسوية السياسيةفكان الجــواب العراقي بالرفض القاطع.
على أننا نستطيع أن نتجاهل ضمن هذا الاستعراض لمستقبل التسوية في الشرق الاوسط، أهمية وأثر التغييرات والتحالفات الدولية المتوقعة خلال الخمسة عشرعاماً القادمة، والتي أعتقد أنها سوف تؤثر بشكل ظاهر في سير الاحداث في المنطقة.واضح لنا أن محاولات تجري في أقاليم أخرى من العالم تعمل نحو خلق نوع من التوازن. وأقدر أنه خلال عقدين من الزمن، سوف يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر إتساعاً وتماسكاً، وبالتالي سيكون منافساً، حقيقياً ولا أقول معادياً للولايات المتحدة في المجالات السياسية والاقتصادية، ومع أن مظاهر هذا التنافس الودي تظهر بشكل خجول إلا أنها ستؤدي عاجلاً أم آجلاً لاستقلالية القرار أو توجه أوروبي. أما أول مظاهر هذا الاستقلال فهو ظهور العملة الاوروبية الموحدة (اليورو) بداية العام القادم، وسوف تكون عملة قوية تنافس الدولار بشكل حقيقي، وسوف يتزامن ذلك مع بروز الصين، أكثر من أي وقت مضى، كقوة لا يمكن تجاهلها، فالصين تتقدم بخطوات حثيثة نحو بناء قوة اقتصادية وعلمية كبيرة، ولا بد أن ينعكس هذا النمو إيجاباً على دورها السياسي الذي ستلعبه على الساحة الدولية بشكل أكبر خلال الحقبة القادمة، وسيكون أثر ذلك واضحاً في آسيا أولاً، وفي باقي أنحاء العالم ثانياً، ويتزامن ذلك مع نهوض الشعور الوطني الروسيالذي سيعمل على إخراج روسيا من قلقها الحالي ومن حالة المهانة والذل التي تعاني منها، وإعادتها إلى دورها ووزنها الدولي الذي كانت تتمتع به قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، إن روسيا تدرك الآن أن عليها ان تصبح كما كانت، قوة عالمية فعالة ومهابة.
إن بروز هذه القوى -إن تم-سيكون على حساب قوة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي لا نزاع عليها، وسوف تحاول كل من القوى الجديدة لأسبابها الخاصة وتبعاً لظروف إقليمها وأوضاعها الداخلية وبدرجات متفاوتة تغيير موازين القوى لتاخذ حصتها التي تستحق.
وقد تقوم تحالفات معلنة أو غير معلنة بين بعض القوى لمواجهة التطورات العالمية، فروسيا تاريخياً موزعة الرغبة والتوجه بين نصفها الأوروبي ونصفها الآسيوي، وقد تميل بثقلها إلى إحدى هذه القوى الإقليمية أو تكون صلة الوصل بينها، وفي جميع الأحوال سترى الولايات المتحدة في هذه التحولات تحدياً لقوتها وسيطرتها، دونما تهديد عقائدي أو عسكري لبعضها البعض، وسيجري التنافس بينها بالوسائل الاقتصادية والسلمية وصولاً إلى المكانة والثقل والتاثير السياسي، وهذا امر يقرب جهود تلك القوى من بعضها البعض في مواجهة النفود الأمريكي، وسوف يعيد هذا الأمر موازين القوى العالمية إلى وضع يمكن أن يستفيد العرب منه في نزاعهم مع إسرائيل، ويخفف بالتالي من استمرار تدفق شريان الحياة عبر القناة الامريكية، فالعرب سيكونون المستفيد من تغيير موازين القوى في النظام العالمي.
واستباقاً لمثل هذه التطورات، تسعى أمريكا لخلق أوضاع وتحالفات في العالم لتحد من أثرها ولتطوق أو تلغي حدوثها، ومن هنا كانت الزيارة ذات الأبعاد الاستراتيجية التي قام بها الرئيس كلينتون إلى الهند قبل أسابيع معدودة، وزيارته الهامة إلى أفريقيا قبل أكثر من عام، ويندرج تحت هذا السياق اجتماع القمة الأوروبي – الإفريقي الذي عقد في القاهرة الشهر الماضي، إذن هذه القوى اٌلإقليمية والعالمية تحاول ايجاد التحالفات استعداداً لمعركة التوازن القادمة، وهذا الواقع يضع الخليج والنفط العربي على قائمة أولويات الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على تفوقها، وفي مواجهة التوازنات الدولية وحماية لإسرائيل.
إن معادلة النزاع العربي الإسرائيلي وفق ما تحدثنا به، وهذا الخلل البين والتنافر بين أطراف النزاع والأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى لكل منهما، تحتم علينا أن ننظر للمستقبل بطريقة مختلفة وأن نعيد تقييم كل مناحي حياتنا، أمران أساسيان لا بد أن نقوم بهما لمواجهة هذا المستقبل لنجد لأنفسنا مكاناً في العالم وبين الأمم : الديموقراطية والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، أو حتى بين اقطار كل إقليم عربي، هذه هي سمة القرن الحادي والعشرين وسمة عصر العلم والتكنولوجيا والتكتلات الاقتصادية الكبرى، والدولة الوطنية لا تستطيع وحدها تلبية حاجات مواطنيها ومجتمعها، بينما التكامل الاقتصادي بين الدول هو الكفيل بذلك، كما أنه أصــبح لا خيار في العالم سوى الخيار الديموقراطي وبناء مؤسسات المجتمع المدني، مستقبل المنطقة في أيدينا، ونحن نقرره، بإعادة التضامن العربي الهادف والفعال، وإحياء مؤسسات العمل العربي المشترك، نحن أمة لها مقومات البقاء والرقي، ولديها الكثير من العمق الحضاري والتراثي والموقع الجغرافي وتنوع الثروات.
يجمعنا الدين واللغة والمصلحة والهدف، إن هذه الأمة أقدم من حاضرها وأثبت من واقعها.