السنوية الاولى لرحيل الرئيس حافظ الأسد
كلمة ألقيتها في القرداحة بتاريخ 10/6/2001 وكنت الأردني الوحيد الذي ألقى كلمة بهذه المناسبة وجاء ذلك بناء على اتصال هاتفي من عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية آنذاك
يليق بالراحليــن الكبار، أن نلتفت حولنا لحظة غيابهم، لنجدهم قد غمروا المكان بحضورهم الساطع، فهم يفيضون دائماً عن ساحة قبورهم، لأن حياتهم ذاتها فاضت سهراً ونضالاً من أجل أمة لم يزدها التحدي إلا مضاء.
مـــن وجع الأردن، ومن دمع فلسطين، من ضفتي النهر الخالد الذي عمد النبي والمقاوم والفادي، جئنا عبر دمشق عاصمة الزمن العربي الأبهى، توأم القاهرة وبغداد، لنشارك في إحياء الذكرى الاولى لرحيل قائد فذ، فجعنا غيابه كما فجعكم، وأدمى قلوبنا فراقه كما أدماكم، وعظمت خسارتنا فيه كما عظمت لديكم. فنحن مثلكم من أبناء بلاد الشام التي استعصت دائما على الجراحات الجغرافية والسياسية، لأنها بعبقرية جغرافيتها وتاريخها الحصين، تعيدنا في كل مناسبة إلى ذلك الجذر الذي نشات عليه حضارة تدين لها البشرية، بالحرف والسيف ونور المعرفة.
لقد عاش القائد الراحل حافظ الاسد وفياً لها مسكوناً بعظمتها وتاريخها، ونذر عمره لوحدتها وعزتها، ولم يغمض لحظة واحدة عن حراسة حريتها، ومع أن القائد الاسد كان قومياً عربياً بامتياز والى أقصى مدى، الا أنه منح الأولوية للبيت السوري الكبير، فقد ناضل في لبنان كما ناضل في سوريا، وقاتل من اجل فلسطين كما قاتل من اجل سوريا، واهتم بالشأن الاردني العام كما اهتم بالشأن السوري، ولا أظن شعبنا الأردني يمكن أن ينسى موقفه حين قال قبل ثلاث سنوات، إن الأردن لن يعطش ما دام في سوريا قطرة ماء.
يعز علي أن اقف اليوم مؤبناً ومعزياً، فالفقيد ملأ الدنيا وشغل الناس عبر حياة مرصودة لأمة تعاقبـــت عليها المحن، وكان الراحل الكبير نموذجاً للمزاوجة بين الذكاء والمضاء، وبين الحكمة والشجاعة، يكفيه فخراً أنه قاتل بشروطه، وفاوض بشروطه، وصمد في المنعطف العسير عندما انحنى الكثيرون، ولم تكن (لاؤه) الكبيرة التي أطلقها في وجه أشرس قوى العدوان والهيمنة، سوى واحدة من مواقف يصعب الان حصرها.
ويكفيه فخراً أنه أسقط اتفاق 17 أيار وحمى وحدة لبنان، وحرر بالتحالف مع حزب الله والمقاومة اللبنانيــة الباسلة أرض الجنوب، ولا اظن أن عربياً منصفاً وأميناً يمكن أن ينكر له هذه المواقف وهذا الفضل، ولن يشوه أحد له ذلك في لبنان أو خارجه.
لعـــل ما يخفف من صدمتنا برحيل حافظ الأسد وفراقه، أنه ترك فينا ولنا، نجله الرئيس بشار الأسد، الذي أثبت خلال فترة قصيرة أن هذا الشبل من ذاك الاسد، وبرهن في أقل من عام واحد أنه أهل لقيادة سوريا الحديثة، وأن سوريا في عهده ونهجه سوف تنمو سياسياً واقتصادياً وديموقراطياً، ولا أظنني مبالغاً او مجاملاً حين أقرر اليوم أن هذا القائد الشاب استقطب اعجاب العرب حين سمى الأشياء بأسمائها الحقيقية، ووضع النقاط على الحروف، فالخطاب السياسي العربي اعتراه الكثير من الغموض، وأوشك أن يخلط بين نابل كل شي بحابل كل شي.
وكم كان مضحكاً ومبكياً في آن واحد، وصف الدوائر الصهيونية القائد السوري باللاسامية، فبلادنا السورية هي مهد السامية والمسيحية وناصرة الدعوة المحمدية.
نحن قادمون من ساحة عربية بلغ التوتر الشعبي فيها ذروته، فالأردنيون مدججون الآن بأقصى مشاعر الغضب على العدو الإسرائيلي وحلفائه، وعلى العجز العربي، هذا العجز الذي يصبح رغماً عن إرادة المتورطين به حليفاً لأعدائنا، ولا أظن أن ساحات العرب كلها تختلف عن ساحتنا الملتهبة.
أقول ذلك لأنني واثق من أن الجماهير التي تكابد ذلاً واحتقاناً غير مسبوق، سوف تنفجر في وجه ظلم العالم ولامبالاته، وعقم الأمة وشلل إرادتها، فالانتفاضة الباسلة تقاتل وحدها، وبلحم وعظم أبنائها في عراء تاريخي لا مثيل له، وعلى امتداد جغرافيا عصية على التدنيس، ويستغيث أحباؤنا هناك بإخوانهم العرب، ولا من مغيث، وأقول هذا لأنني أرى العراق محاصراً من لدن أعدائنا وبعض بني قومي على حد ســـواء، ونحن في الأردن، وبالتأكيد في سوريا وباقي أقطار الوطن العربي، نقول كفى لعربدة القوة والظلم، كفى.
وبعــــــــــــــد،
سلام عليك يا أبا باسل، فقد رحلت عنا، ولكنك ما زلت حاضراً فينا، فأمثالك لا تغرب شموسهم بالموت، لأنهم يضيئون ليلنا المديد هذا، بما أحرقوا أنفسهم من أجل إنارته، وهذا نجلك يقود الركب بقوة واقدام، يعيد الأمل من زمن التيئيس المبرمج، وهذا نهجك يتجدد ولا يخبو ويتبدد، ويستمد المزيد من مصداقيته السياسية والأخلاقية من هذا الواقع الذي سقطت عنه الاقنعة كلها تباعاً، وبدت الحقيقة ساطعة في ظهيرة حاسمة، وهاهم أبناؤك يقفون اليوم معاهدين على الوفاء، مصممين على النضال، ملتزمين بمواصلة المشوار وموقنين بحتمية الانتصار.
سلام عليك يا أبا باسل، ونم قرير العين في جنة الرضوان، فهذا نجلك يسير على ذات دربك، ويتمسك بذات نهجك، ويحظى بشعبية عربية متنامية، تجعله ابناً باراً لجيله، حفيداَ مجيداً لجيلك، جديراً بقيادة بلد عظيم كسوريا، حارسة التاريخ العربي، الذائدة عن قلعته.