تأبين جورج حداد
هو كاتب مرموق منتمي إلى الحزب القومي السوري، وكان تجريدي الفكر ومثقف من طراز رفيع، وكان له عمود مقروء جداً في جريدة الدستور ألقيت هذه الكلمة بتاريخ 18/8/2009
يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون (تجتمع مقدرة الشعب كلها في هذه الطائفة الصغيرة المؤلفة من الرجال الممتازين. أولئك الذين إذا اخرجناهم من كل جيل، سقط مستوى الأمة العقلي سقوطاً كبيراً.وإلى هذه الطائفة يرجع الفضل في الرقي الذي وصلت إليه الأمم في جميع فروع الحضارة. والتاريخ يدلنا على أننا مدينون لهذا الرهط بكل شيئ).
وأحسب أنكم تشاركون في هذا الحفل لتكريم راحلنا الكبير الاستاذ جورج حداد لأنكم تعتبرونه واحداً من هؤلاء الناس، وأحسب أنكم اتيتم في ذكراه لانكم تتفقون مع الفيلسوف العظيم نيتشه في قوله (الذكرى نقش على ضريح العاطفة). وها نحن في عيد ميلاده الخامس والسبعين نحيي ذكراه ونتذكر أفضاله في تعميم الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي.
أول معرفتي بجورج حداد كانت عام 1989، أثناء حملة الانتخابات النيابية التي خضناها عن الدائــــرة الثالثة في عمان. وأذكر أنني اطلعت على البيان الانتخابي له، وأعجبت بالبيان وبافكاره وبشخصه. ووجدت أنه أفضل بيان انتخابي لأي من مرشحي الدائرة الثالثة، بما فيهم بياني الانتخابي الذي بذلت فيه جهداً كبيراً، واستعنت في صياغته بعدد من المثقفين كي يكون على مستوى سياسي وفكري ووطني وقومي وتقدمي، فقررت التعرف على صاحب هذا البيان، وحصل ذلك في مناسبات متعددة.
وكان جورج معنا ضمن الحلقة الضيقة مع عدد من السياسيين الشرفاء الذين بدأوا في ذلك الوقت العمل على إنشاء حزب سياسي عريض القاعدة ووطني وديموقراطي، وأعلن منذ البداية أنه يشارك معنا ليس بغـــرض الانضمام إلى الحزب الجديد، لانه ملتزم حزبياً، بل بغرض أن يقدم فكره وخبرته ومشورته، وقبلنا بذلك لأننا كنا بحاجة إلى كل ذلك.
كنت متفقاً بأن عمق الازمة الراهنة في الامة العربية يكمن في تراكم التجزئة مع استمرار الخل في البناء الداخلـــي، سواءً كان ذلك على الصعيد الدستوري أو على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية، حيث الفقر، وندرة العدالة، وارتفاع نسبة الأمية، ومحدودية فرص العمل، وزيادة هجرة الكفاءات إلىخــارج الاوطان. وتوجد الان في المنطقة العربيــة حالة فكرية مماثلة لحال العرب في مطلع القرن العشرين، من حيث التنسيق المشترك والتوافق على مفهوم الأمة والهوية المشتركة، والانقسامات الداخلية على أسس طائفية وقبلية وعرقية.
وأضيف أن حاجة قصوى لوقفة مع النفس العربية الآن وقبل فوات الأوان. وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع دعا إليه دائما جورج حداد، يتجاوز الاقليمية والطائفية والمذهبية، ويقوم على الديموقراطية والمساواة وسيادة القانون، ويعتمد على نبذ العنف والتطرف والانغلاق، واعتماد مرجعية الناس ومصالحها في إقرار النصوص والدساتير والقوانين، نحن بحاجة ماسة وملحة لتجميع جهود الديمقراطيين العرب نحو مزيد من الجهود الحثيثة للحفاظ على النسيج الوطني الواحد والذي يتناسب مع إطار قـــومي عصري وتقدمي، هذه الجهود التي من شأنها أن تضيق الخناق على ولادة كانتونات تحقق مصالح فئوية ومؤقتة إلى فضاء أوسع لرؤى عربية مشتركة تخدم المواطن العربي على أفضل وجه.
ولأنه عاش من أجل رسالة آمن بها ودعا لها فقد بقي ناسكاً زاهداً في الحياة ليكون مثالاً يحتذى في الخلق والعفة ونظافة اليد ونظافة الفكر، والأمة بدون رسالة تكون أمة تائهة ضائعة وتقهقر في حساب التاريخ.لقد ابتعدت الامة عن رسالتها وأصبح الحال على ما هو عليه اليوم، وكان جورج حداد يكتب ويدعو ويعمل للنهوضبالامة من خلال تحديد او تجديد تلك الرسالة العظيمة التي حققت فيها الامة أكبر وأعظم الإنجازات.
كان -رحمه الله– مثقفاً، وما أقلهم في عالمنا العربي، فنبذ التعصب والانغلاق والتطرف. كان يدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. كما كان قومياً حتى العظم وعشق فلسطين واعتبــر تحريرها ضرورة بل أمانة وواجباً قومياً، واعتبر تحريرها بداية لتوحيد سوريا الكبرى.وفي خط متواز، اعتبر أن توحيد سوريا الكبرى هو بداية تحرير فلسطين. فالطريق باتجاهين، هذا يؤدي إلى ذاك، والعكس صحيح.
كان ضليعاً في الفكر التلمودي اليهودي ويعرف نواياهم وخبثهم وكشفه عبر كتاباته مراراً وتكراراً.
معضلة الموت أنه حتمي ونهائي. ورهبته فلسفية. فحسب افلاطون (ليست الفلسفة الا تأملاً للموت) (ولا راد لقضاء الله) (وكل نفس ذائقة الموت، ثم إلينا ترجعون) صدق الله العظيم.
لقد فقدنا جميعاً مَعْلماً ومُعلّماً كنا نسترشد به. فنم قرير العين أبا أدونيس. فأنت في نظرنا وقلوبنا مواطن عربي صالح بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان.