احتفال بمرور ستين عاماً على إقرار دستور المملكة
ألقيت هذه الكلمة في جلسة غير رسمية لمجلس الأعيان دعوت لعقدها في مجلس الأمة القديم في جبل عمان بمناسبة مرور ستين عاماً على إصدار دستور المملكة. وعقدت بتاريخ 30/1/2012، بعد أن تم إعادة تأهيل مقر مجلس الأمة القديم. وقد دعوت لحضور هذه الجلسة السيد عون خصاونة رئيس الوزراء ومجلس الوزراء والسيد عبد الكريم الدغمي رئيس مجلس النواب والسيد محمد المحاميد رئيس المجلس القضائي والقى كل منهم كلمة بهذه المناسبة. كما دعوت رؤساء مجلس الأعيان السابقين ورؤساء مجلس النواب السابقين. وقد افتتحت الجلسة بتسجيل صوتي للملك عبد الله الاول يعلن فيه استقلال المملكة الاردنية الهاشمية. إنني أعتز بهذا الحدث واعتبرها جلسة تاريخية ورائدة.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في تفصيل حال عباده الصالحين
"والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون"
صدق الله العظيم
سورة الشورى الآية 38
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومعكم حضرات الأخوة والأخوات، وبين يدي ذكرى مرور ستين عاماً، على إقرار دستور المملكة عام 1952، نعقد جلستنا هذه، نستلهــم في هذا المقام العربي الأردني الهاشمــي، مهابة اللحظة لهذا المكـان، وذاك الزمان، ونقرأ في هذا المشهد الوطنــي المهيب، سيرة الرعيل الأول. ونقــف إجلالاً وعرفاناً، أمام جهاد رجال أسسوا وبنــوا، بريادة ملوك هاشميين أحرار، تحت وطأة الشقاء، وشظف العيش، وظُلم المستعمر، وطناً أرادوه حضناً دافئاً، لكل الطامحين للحرية، والعيش الكريم، وثمراً طيباً لثورة العرب الكبرى، ونــواة للحلم العربي الكبيــر الذي كـــان...ومــازال، هاجساً في نفوس العرب كافة. فتعالوا نترحم على أرواح أولئك الغــر الميامين، الملك المؤسس، عبد الله الأول أبِ الدوله، وأبِ الدستور، الملك طلال بن عبد الله، والملك الباني، الحسين بن طلال، ومعهم سائر الآباء والأجداد، الذين ما عرفت العقول والضمائر منهم يوماً، نوازع الجهوية أو الفئوية، وإنما هُم عربٌبالفطرة، ومؤمنون بالفطرة، وأُردنيون بالفطرة، يجمعهم همٌّ واحد، هو بناء الدولة الحرة التي يكبر الحلم فيها، ليحاكي أحلام العرب كافة، وأحلام المسلمين كافة. فلم تكن الثورة ابتداءً، إلا من أجل هدفٍ عظيم كهذا.
نجلس اليوم بوقار، في رحاب هذا الصرح العريق، نستعيد بعضاً من محطاته المفصليه، في تاريخ دولتنا، حيث للمكان رمزيته، وحيث للزمان رمزيته، وبيـــن الزمــان والمكان، فصولٌ كريمـة من الإنجــــــاز المشهـــــود، وهـــو تاريخ حفزنا فــــي مجلس الأعيان، للمبادرة بعقد هذه الجلسة الخاصـــة، نتنسم عبق الوفــاء، في فكر أولئك الغيارى، وقد أرسوا دعائم الدستور في تاريخ الدولة، وفق فكر قــومي إيماني سليم، ونهج وطني سليم، ورسخوا مفهوم الأمة مصدراً للسلطات. وها نحن اليوم وبأمانة، نعود ثانية لقراءة ما أنجزوا، لندعم دستورنا الجديد، بأسباب القوة، عدلاً وحرية، وديمقراطية ومؤسسية، ونقاء ونبلاً في السرائر والقلوب، حيث لا تتمترس خلف فكر ضيق، ولا مكان لاستئثارٍ يلغي الآخَر، وإنما شهامة في السلوك، ونبلٌ في القول، وبعدُ نظر لا يُجارى، في استشراف الحاضر والمستقبل، وسمو لا يُدانى، في إنتاج الفكر المبدع.وهذا هو أساس بناء الدولة ابتداءً، منذ وصول الملك المؤســـس، وعبـر مراحل البناء كافة، مسنوداً بعطــاء رجالٍ أخلصوا للفكرة، ومنحوها كل جهدهم، وتضحياتهم.
هُنا حضرات الأخوة والأخوات، جرت مراسم تسلم الملوك الراحلين، سلطاتهم الدستورية، ومن هُنا أعلن استقلال الوطن، ومباركة القرار التاريخي بتعريب قيادة الجيش، وإنهاء المعاهدة الأردنية – البريطانية، ودخول الأردن عضواً في هيئة الأمم المتحدة، وفي هذه الساحة البسيطة مساحةً والكبيرة إِنجازاً أُقر دستور 46 ودستـــور 52، وتشريعات وسياسات، وألقيت خُطبٌ محترمة. هُنا في الزمن الصعب، أجمع الأردنيون والأردنيات، ومن كل المشارب، على أن الأردن وطن كبير بشعبه وقيادته.فلقد كان الرجالُ كباراً بحقْ، وكــان المنجز كبيراً بحق. هُنا أُقرت أهم وحدة عربية عرفها التاريخ المعاصر، بين الشعبيـــن الشقيقين، الأردني والفلسطيني. هُنـا التقى الرجال من يميـــن النهر ويساره، وقرروا الوحدة، في إطار وحدوي صادق، هو المملكة الأردنية الهاشمية، إلا أن المخطط المعد، حال دون دوام ذلك، وليجد الشعبان الشقيقان، وهم الشركاء في الألم والأمل، أن المصالح الوطنية القومية، تقتضي أن نعمل معاً، وبشرف لا حيدة عنه، على صون الهوية الوطنية الأردنية، هنا على الأرض الأردنيـــة، والهوية الوطنية الفلسطينية، هناك على الأرض الفلسطينية، في مواجهة مخطط العدو ذاته، ودعماً لحق الشعب الفلسطيني الشقيق، في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.
يتزامن انعقاد جلستنا الخاصة هذه، مع احتفالنا بالعيد الخمسين، لميلاد جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم، فكل الدعاء لجلالته بالعمر المديد، والرأي السديد والتوفيق في قيادة مسيرة الإصلاح، وقد أفرزت دستوراً جديداً، نحتفل اليوم بإنجازه بحمد الله، باعتباره استكمـــالاً لدستور عام 1952. وفي هذا تزامن وجداني، يزيد من عزمنا، على بناء المزيد من النظم التشريعية والإدارية والسياسية، لترسيخ وحدتنا الوطنية الأصيلة، ومأسسة مسيرتنا الديمقراطية، وترسيخ نهج العدالة والحرية والمساواة، وإحياء ذاكرتنا الوطنية، وتأصيل الإنجاز، مرتكزاً للانتماء، وعلى أساس مشروع إصلاحي شامل، يحصن بلدنا في مواجهة التحديات، والمصالح والمطامح الإقليمية والدولية، ويعظم مشاركة شعبنا الأردني كله، في الالتفاف حول الدولة، والجاهزية للدفاع عن الوطن ومنجزاته، عندما يكون الدستور، سيــد الموقف، وعندما يكون القانون، هادينا جميعاً، في القول والعمل، وعندما يكون نهج الآباء والأجداد، وعنوانه رفعة في الموقف والكلمة، مصدر إلهام لنا جميعاً، كباراً نترفع فوق الصغائر، ونحـــــن كبار بإذن الله، لا يمكـــن أن تجنـــح بنا التحديات، أو ظـــروف الزمان، أو أي فكــر شاذ، صوب مزالق الفرقـــة، أو الفتنة، أو فوضى تستجيب لطموح عدو.
نتشرف بأن نعتبر هذا اليوم، "يوم الدستور"، وندعو إلى اعتباره يوماً للتذكر والمراجعة، يستذكره الأردنيون جميعاً، بالوفاء والتقدير، ونبارك لصاحب الجلالة ، بعيد ميلاده، ونسأل الله جلَّ في عُلاه، أن يمـــد في عمره وأن يبقى ذخراً وملاذاً للفكر والنهج الوطني والقومي، وأن يحفظ الأردن الغالــي، وطناً عصياً على التحديات، ومن هُنا، من هـــــذا المكان الجليل، نُزجيها تحية محبة وتقدير، إلى شعبنا الأردني الواحد، على امتداد الوطن كله، وإلى الشعب العربي الفلسطيني الشقيق، الرازح تحت الاحتلال الغاشم، وكل الشعوب الطامحة للعدل والحرية. ومن هُنـا، من هـــذا الصرح الشامخ كشموخ الأردن، نسجــــل وبكــل الوفــاء والعرفـــان، الدور الوطني القومي الرائــد، لكـل من هتـــف لسانه، بكلمـة عبر هذا الفضاء الطيب، من أجل الأردن الوطن، ومن أجل العــرب وقضاياهـــم، والمسلمين وقضاياهم، والإنسانية وقضاياها.
وتعالــوا حضرات الأعزاء، نترحم على أرواح كل من أَمَّ هــــــذا الصرح، من الرعيل الأول، الملـــوك الهاشميين الأبرار، ورجالات الأردن ونسائه الأخيار، ونستذكر عطاءهم الطيب، بالتقدير والعرفان.