ضرورات الإصلاح في الأردن
محاضرة ألقيت في منتدى السلط الثقافي بتاريخ 23/8/2014
في السلط، مدينة العلم التي تعتز بأول وأعرق مدرسة في تاريخ المملكة، يشعر الإنسان بدفء خاص.فمن هنا، من هذه المدينة الجميلة، العـــريقة بعشائرها وعائلاتها ورجالاتها، تخرج الكثيرون من رجــالات الوطن، وقادة المؤسسة الذين كانوا يقصدونها من كل أرجاء الأردن، طلبــاً للعلم في الزمن الصعب بظروفه، الجميل والرائع في مخرجاته.
السلط شقيقة نابلس، والسلط مثال حي صادق، لوحدة الهدف والمصير للشعبين الشقيقين على ضفتي نهــر الأردن، حيث تتشابك العائلات إيجابياً بالمصاهرة والنسب، تماماً كسائر مدننا الأردنية العزيزة، حيث الأخوال والأعمام والأصهار هنا وهناك، في نسق عروبي أكثر من رائع.
الشكر لمنتدى السلط الثقافي وإلى الدكتور علي حياصات لاتاحتهم لي هذه الفرصة للتداول في الشأن العام.
فبعد أن هدأت العاصفة التي سببتها زيارات جون كيري للمنطقة خلال الأشهـــر الأولى من هذا العام، ومع ظهور كوارث أخرى حلت بالمنطقة منذ ذلك الحين، صار من الضروري أن نتعامل بل أن نتصدى لمشكلاتنا وقضايانا الداخلية، وترتيب بيتنا، حتى نكون قادرين على حماية الوطن وإنجازاته، قولاً وفعلاً وإرادةً وإيماناً.
ودعوني أبدأ بالقول إنّ صورة الأردن في العالم، صورة براقة ومشرقة بشكل عام، فالأردن، البلــد الصغير في حجمه، الكبير بدوره، الفقير في ثروته الطبيعية، يعيش في إقليم ملتهب وغير مستقر، أصبح ركيــزةً وعنصراً أساسياً في هذه المنطقة، وله دور سياسي معترف به، والأردن في نظر القوى الكبرى وسائر دول المنطقة، بلد العيش والتعايش المشترك والتسامح والوسطية، هو البلد الآمن والمستقر، والساعي إلى ترسيخ مبادىء العدل والمساواة والقبول بالآخر. لكنه في نفس الوقت، هو البلد المهدد دائماً بأمنه واستقراره، خاصة من بعض جيرانه، نتيجة لتمسكه بتلك المبادىء. وأصــبحت تلك القوى والدول تتعامل مع الأردن على هذا الأساس، وتسعى لدعم وتأييد هذا الواقع الأردني، وتمتينه سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً. حتى أصبح الأردن من أقرب دول العالم في علاقاته مع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ونمور آسيا وحلف الأطلسي.
وتساهم في تعزيز هذه الصورة البراقة، القوات المسلحة الأردنية، والخدمات الطبية الملكية، وأجهزة أمنية أخرى، التي تقدم خدماتها منذ سنوات طويلة، في مجال حفظ السلام والأمن، وتقديم الرعاية الصحية في مناطق منكوبة في مختلف أنحاء العالم سبيلاً للتعبير ومنهجاً للفكر. كما أن هناك ظروفاً معيشية وأوضاعاً إدارية، وتحولات اجتماعية تؤدي في نتيجتها إلى تخلخل في النظام العام وفـــي الانضباط وفي مجال الثقة بين المواطن والمسؤول، وهو ما يجب أن نواجهه بالتحديث المطلوب تربوياً وقيمياً، وبث روح الوطنية التصالحية والتسامحية، ذات الأفق الرحب والفضاء الفسيح، وترسيخ دولة المواطنة والعدالة.
مع كل ذلك، يجـــب أن يرد الفضل إلى صاحب الفضل.وفضل جلالة الملك عبد الله في ذلك لا ينكره أحد.
هذه الحقيقة يجب الاعتراف والاعتزاز بها. فصورة الأردن في أذهان العالم بأسره إيجابية، حضرياً وحضارياً، جراء قــدرته على استقراء المستقبل، واستباق الأحداث والأستعداد لها بشكل منظم ومتــدرج. مما شكل انطباعاً عالمياً عن اختلاف نظامنا السياسي عن باقي دول الإقليم. إلا أن علينا أن نقربالتباين بين الصورتينالخارجية والداخلية، بين ما نريده لأنفسنا ونتمناه لوطننا، وبين ما نعيشه اليوم، ففي مملكتنا ثمة جيوب إجتماعية بدأت تتقوقع على ذاتها، حتى صارت مرتعاً للفكر المنغلق الذي يجد في دعوات التطرف الملجأ والملاذ.
وتسيطر على المواطن الأردني حالة من الإحباط لأسباب كثيرة. إننا ونحن نفتخر بأصالتنا، تاريخياً وجغرافياً، ونظاماً سياسياً وهوية وطنية، وتعددية سياسية ودينية، فإننا ما زلنا بعيدين عن تحقـــيق هدفنا وهو بناء الدولة المدنية الحديثة. وربما أننا في ظل الظروف الإقليمية المضطربة والدموية، وفي ظل أوضاعنا الداخلية، أقول ربما نحن ندفع بعيداً عن تحقيق ذلك الهدف، ويرى هذا المواطن أن التغيير في الأمور السياسية، ربما يسير بتدرج إصلاحي مقبول، ولكن حتماً فإن التغيير في جوانب أخرى من حياته، كالوضع المعيشي يسير في الاتجاه المتراجع السلبي، وبسرعة أكبر من سرعة النمو المتدرج في المسار السياسي.وهذا يزيد الأعباء المادية والنفسية على المواطن.
لقد أحرزنا تقدماً جيداً في مجال الإصلاحات التي اشتملت على جوانب عديدة في حياة الأردنيين، ولكن هـــــذا القـــدر من الإصلاح قد تم أغلبه في (النصوص)، ولم يحقق القدر الكافي في مجال إصلاح (النفوس). والآن حان وقت التعامل مع (النفوس)، فقد تغير بنيان الفرد الأردني الفكري والذهني والانساني واختلفت سلوكياته، وبالتالي يتغير الآن بنيان المجتمع تبعاً لذلك. وجرى هذا التغيير الذي ما زال مستمراً لأسباب عديدة منها:
- لم تتواءم أو تنسجم السياسة التربوية والإدارية والإجتماعية، مع ما يرنو إليه التطور النوعي الذي سار عليه العالموالعلم منذ ثورة المعلومات والتكنولوجيا، ولذلك فقد تراجعت أخلاقيات التعليم ومستواها المهني. وزاد تدخل الحكومات في استقلالية الجامعات، وفي النشاطات الطلابية والأكاديمية، وبالتالي تراجعت مخرجات الجامعات والتعليم. وأصبح الحرم الجامعي من أضعف نقاط المجتمع الأردني وأكثرها ضياعاً بعد أن كان من أقواها.
- ازدياد نسب الفقر والفقراء بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي تعاني منها قطاعات واسعة من المواطنينر، وتراجع الشعور بالامان الاقتصادي والمعيشي ووجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل خاصة في المحافظات، وللأسف فإن هذا الحال يتعمق، وبالرغم من كل الجهود المخلصة والأموال التي تبذل لتحسين الوضع.
- عـوامل سياسية متعددة، منها تداعيات الصوت الواحد في قانون الانتخاب، مما أدى إلى تبعثر مفهوم الانتماء، وابتعاده عن المفاهيم الوطنية العامة، وازدهار المفاهيم الجهوية الضيقة، الأمر الذي أدى كذلك، إلى تراجع مفهوم الدولة والانتماء إليها، في الوقت الذي يترسخ فيه مفهوم الدولة، ويتقوى ويأخذ أبعاداً جديدة في دول العالم، هذا إلى جانب حديث الفساد الذي يتداوله العامة بشكل واسع، مع قناعات سلبية حول محاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين. وكذلك تعثر البلديات، وعـــدم قدرتها على تلبية حاجات الناس، فضلاً عن البيروقراطية التي أصبحت معطلة لمصالح الناس، بسبب عدم استقرار التشريع وترهل الجهاز الإداري وسيطرة الواسطة ومعايير أخرى على التعيينات. مما نتج عنه عدم مواكبة البنية التحتية لحاجات السكان، إما بسبب عدم توفر المخصصات اللازمة لها في الموازنة العامة، أو بسبب الهجرات السكانية. وأدى هذا إلى ضعف منسوب الثقة بين المواطن والمسؤول.
- تأثير ديني عقائدي مصدره مفاصل الصراع الذي يجري حولنا، خاصة أثر تلك التقسيمات السياسية والانقسامات الأثنية والدينية والطائفية، والتي أصبحت بوادرها واضحة في كل من العراق وسوريا واليمــن والسودان وليبيا. وربما يأتي الــدور أيضاً علــى بعض دول مجلس التعاون الخليجي أيضــاً، الخلاف الحاد الجاري في مصر الشقيقة، وكذلك تداعيات القضية الفلسطينية المستعصية على الحل، هناك من يعتقد بأن خارطة المنطقة ستكون مختلفة عام 2020، عما هي عليه اليوم.
- جيل الشباب الذي لا يزيد عمره اليوم عن 25 عاماً، والذي يشكل أكثر من 35% من المجتمع الأردني، فقد تأثر هذا الجيــل بتلك العوامل المذكورة. إضافة إلى أنه عـــاش في ظل ثقافة الانترنت التي وفرت له معلومات وحرية تعبير لا سابق لهما، ولذلك فإن التكوين الفكري والسياسي والاجتماعي لهذا الجيل، اختلف كثيراً عـــــن تكــــــوين من سبقهم من أجيال. وهو جيل يمكن القول بأنه جيل (متمرد) او مستجد في ثقافته ومفاهيمه، قياساً على معايير الماضي، ومن الصعب أن يقبل بما قبل به جيلنا.
تلك بعض من عوامل وأسباب عديدة تجعلنا بحاجة ماسة، إلى إعادة التفكير في كثير من السياسات والممارسات وأنماط إدارة الدولة. وهنا أعتقد بضرورة أن يتركز الجهد على إعادة الاهتمام بالإنسان الأردني، وإعادة تأهيله وبنائه، بحيث يكون هناك توازن في شخصيتــــه، بين مفاهيمه وواجبه الوطني، وبين متطلبات الفرد المعيشية والاجتماعية. فاتساع الخلل يجعلنا بحاجة إلى (ثورة بيضاء) حقيقية طال انتظارها، نابعة من شراكة حكومية وأهلية، أساسها تعزيز وترسيخ مفاهيم الدولة الحديثة، القائمة على سيادة القانون، وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص، بحيث تعتمد على رؤى وخطط بعيدة المدى ملتزم بها وبتنفيذها، وبإرادة سياسية حازمة حاسمة، ليعود المجتمع الأردني، ذلك المجتمع الذي كان مليئاً بتلك الأمثلة البراقة. وليصبح الإنسان الأردني محصناً وحارساً على مصالح وطنه.
إن من الضروريالشـــروع بمراجعة شاملة لجميع خططنا وسياساتنا، على نحو يؤدي إلى وقف التراجع، في القيم والمفاهيم والانتماءات، وفي هيبة الدولـــــة. وأن يـــــــؤدي كــذلك إلى إيقاف التسرب نحو دعم القوى الظلامية، والانضمام إليها. وهو تسرب بدأ بالظهور في بعض زوايا المجتمع. وفي هذا السياق أعتقد، أن هذه القوى تلاقي هوى ودعماً سياسياً واجتماعياً عند أعداد متزايدة من الشباب الأردني عموماً، تحت وطأة الضياع والإحباط. خاصة وأن تلك القوى بدأت بإيقاظ السلبيات التي كانت نائمة أو مكبوتة في مجتمعنا. إن التسرب الممنهج في مجتمعنا، سببه أن المواطن أصبح يمتلك قنوات وأدوات للتعبير عن إحباطاته وتظلماته، سواء أكانت صحيحة أم لا، وبالتالي، فإن دعم البعض لتلك القوى وتوجهاتها، ليس بالضرورة اتفاقاً في العقيدة أو الرأي أو الممارسات، وإنما هو ناجم في كثيــرمن الأحيان، عن شعور متزايد بالاحباط. وأزعم أن الخطر على هذا الصعيد، مقلق، وربما أكثر مما يظن كثيرون منا، أيضاً فإن الخطر نابع من أن هذه القوى تبث في الناس ثقافة الموت، لا حب الحيــاة، وهي تشعل بشكل أو بآخر نار التناحر الطائفي، وهو تناحر عميق في هذه المنطقة. وإذا اشتعلت النار فيه، فإنها لن تخمد بسهولة.
المنطقة تمر بمخاض وتحول جذري وتاريخي، ستقرر على أساسه مصائر دول وأنظمة، وتغيرت التحالفات أو العداوات القديمة، وظهر هذا خاصة في الخليج العربي وبين الولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول عربية أخرى. وهي دول ومناطق حيوية للكيان والنظام الأردني. والأردن يقع في قلب المشرق العربي، والسوار الملتهب يحيط بنا، وهو معرض لكل تلك التداعيات والتفاعلات، المجتمع الأردني قلق للغاية من هول ما يرى في المحيط والجوار ويشعر بالخطر على أمنه واستقراره وعلى مستقبل أبنائه، وحتى على كينونته، ولــه الحق في أن يقلــــق، ولـــه الحق في أن يبدي الرأي فيما يتعلق بوطنـــه وشؤونه، فنحن جميعاً مواطنون منتمون لبلدنا، ونحن شركاء نحرص على سلامته ونــرفض أي مساس به من جانب أي كان. ونرى الخطر الكامن في الداخل، ويتقدم علينا من الخارج. وسوف تستثمر الجماعات الإسلامية المتطرفة الوضع الداخلي الصعب والقلق لاغراضها.
لقـــد تم تشخيص الحالة والوضع الداخلي بشكل عام، وهناك اتفاق شبه كامل على هذا التشخيص. وحديث جلالة الملك في لقائه مع المجلس الاقتصادي الإجتماعي أول أمس الخميس 21/8 عدا عن مناسبات كثيرة أخرى، أكد فيها على هذا التوافق في التشخيص، إضافة إلى أن الأوراق النقاشية الأربعة التي غطت كل مرافق الحياة الأردنية. هي تشخيص جيد وخطط مستقبلية واضحة.
إذن ما هو الحل؟ وما علينا أن نفعل؟
أولاً: يجب أن تكون لدينا الجرأة والشجاعة لنعترف بوجود هذه المشاكل وهذا الوضع، وأن لا نختبىء وراء تفسيرات أو تبريرات سطحية. فالجميع يعرف حقائق الأمور. ويجب أن نقر بأن عملاً إصلاحياً شاملاً يجب أن يتـــم تبنيه، وان تكون هناك الإرادة السياسية لدعم هذا التوجه بل لقيادته. ويجب أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع.
أنا لا أدعي أن لدي مشروعاً كاملاً لهذه الأمور، ولا أظن أن أحداً باستطاعته أن يقدم خطة أو برنامجاً متكاملاً يغطي كل هذه المسائل، ولكن هناك من له القدرة على التشخيص وتحديد الرؤى والأولويات. فهناك الخبراء والمختصون الذين يصوغون ذلك في برنامج عمل موحد وخطة إستراتيجية تشمل كل مرافق الدولة.
نعم، هناك حل وهناك إجابات.
إن اللجــان الملكية التي تم تأليفها وخرجت بوثائق وخطط فاعلة ومفيدة، لم تحظَ بالموافقة الحكومية.وأذكر هنا على سبيل المثال لجنة الأجندة الوطنية ثم لجنة الحوار الوطني. حيث قدمت كل لجنة وثيقة شاملة للإصلاح المتوازن والمتدرج. وحظيت وثيقة الحوار الوطني بتأييد واسع النطاق في كافة المحافل السياسية الاردنية. وللأسف فإن كل مخرجات وتوصيات هذه اللجان الملكية وضعت على الرف.
العامل الجديد في هذه الأفكار، هو أن الإصلاح المطلوب لم يعد مقتصراً على التعامل مع مؤسسة أو قطاع أو قانون، أي بما يشبه الإصلاح بالقطعة. المطلوب الآن نظرة وخطط إستراتيجية تشمل كل قضايا الأردنيين ولتحقيق مفهوم الثورة البيضاء الذي يرعاه جلالة الملك. ويمكن بلورة أفكار محددة أكثر في الأيام القادمة.نحن نريد أن تكون الثورة البيضاء العتيدة بداية لمرحلة أو حقبة جديدة من حكم الملك عبد الله الثاني، وانسجاماً مع ما ينادي به نحو السير المدروس والأكيد نحو الملكية الدستورية، فهذا الشعار والهدف السامي يجب أن يسبقه تحفيز وتجهيز التربة والبنية التحتية للمؤسسات الدستورية، وأن تكـــون سيدة نفسها وأن تكون ركائز الديموقراطية مثل الأحزاب وقانون الانتخاب قد ترسخت وأخذت مكاناً، وأن تعيد للدولة هيبتها وأن تسري القوانين على الجميع بعدأن تتحقق العدالة.