مخاطر الوضع الاقليمي على الأردن وماذا عملنا لمواجهتها
محاضرة ألقيت بدعوة من منتدى الفحيص الثقافي بتاريخ 15/6/2015
السلام عليكــم، وأسعد الله مساءكم جميعاً، أشكر لكم حضوركم الكريم، وأشكرُ لهذا المنتدى الطيبْ، رئيساً واعضــاءً، دعوتهم الكريمة، للتشرفِ بلقاءِ هذا الجمعِ الطيبْ، في هذه المدينة الطيبةْ، والتي تجسدُ الإصالة والمعاصرةْ، في أبهى تجلياتها الوطنية وبعد،
أبدأ بتوجيه التحية إلى جلالة الملك عبد الله الثاني وإلى قواتنا المسلحة بمناسبة يوم الجيش والأعياد الوطنية، وأدعو الله أن يديم علينا نعمة الأمن والاستقرار.
تكثرُ اللقاءاتُ والمحاضراتُ في هذه الأيام، وجميُعها تذهبُ إلى الشأن السياسي المباشر، خاصةً في ظــل ما تشهدهُ المنطقة، من تغييرات جذرية، تُفضي إلـــى إرهاب، وتحالفات سياسية وعسكريةْ جديدة، وعلى نحو عنوانه الفوضى، ولا ندري هل هي الفوضى الخلاقة التي بشرونا بها قبل بضع سنواتْ، أمْ هي فوضى من إنتاجنا نحن العربَ، ولا ندري كذلك، إلى أين ستذهب بنا، وبدولنا، هذه الحروب الأهلية العربية والتي ستفضي إلى خلق أوضاع جديدة في الشرق العربي بما فيها الأردن.
ظننتُ أنْ أغيَر هذا النمط وأن أتحدث إليكم خارج النطاق السياسي المباشر، وأن أذهبَ إلى ما هو أبعد، وما هو في تقديري، الجذرُ والأساسْ لكل ما نواجهُه كعرب، وكمجتمع إنساني عانىْ من ويلاتٍ، وحروب ونكباتْ، وما تنتجهُ هذه الحروب، من جهلٍ، وفقرٍ، وتخلفٍ، وظلمٍ، وهيمنة، ونقمة، وصـــراع، وقتل، وتشردٍ، ودمارْ، إلى آخر القائمة المظلمة، من مظاهرِ السوء في حياة البشر.
واختــــرت الحـــديث عن قيمة إنسانية عظيمة هي قيمة (النزاهة)، غير أن سرعة تطور الأحداث من حولنا ووصول الوضع السوري والعراقي واليمني إلى مراحل حرجة للغاية وتطور الموقف الأردني نحو الردع جعلني أتراجع عن ذلك للحديث عن الوضع السياسي العام. إذ تبقى الأولوية اليوم للحديث عن أوجه الخطر الذي وصل إلى حدودنا.
السيدات والسادة،
تعيش المنطقة العربية فوق بركان ملتهب، وكأنها كرة نارية تتدحرج فتحرق كل ما تمر به، ورغم ذلك يتمتع الأردن باستقرار نسبي، ولكن هناك نار تحت الرماد قد يتأجج لهيبها في أي وقت، فالأوضاع العربية المتأزمة والحرب الاهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن عكست حالة من عدم الاستقرار بامتياز وتداخلت الأوراق بشكل كبير، وأصبحت التنظيمات العسكرية الإسلامية المتطرفة تقف على حدودنا مع كل من سوريا والعراق وتتحكم بقرار فتح أو إغلاق الحدود مع البلدين وأصبحت مصائر شعوب المنطقة وحدود الدول في مهب الريح، ولا أحد يعرف متى تعود الأمور إلى طبيعتها وتنعم المنطقة والأجيـــال بالسلم والأمن.وما كان ذلك ليحدث لو أننا آمنا بالدولة العميقة التي تعتمد سيـــــــادة القانون وتبنى على أسس ديمقراطية واضحة، لا بل تؤسس لها بالشكل الصحيح.وهذا يعني أن تكون البنى الفوقية من الدساتير والقوانين التي تخدم هذا المسار.وأن تتم مشاركة ممثلي القطاعات الشعبية والنقابات والاحزاب ومنظمات المجتمع المدنـــي خير تمثيل فيها، لتحقيق أكبر قدر من الاجماع الوطني. وهذا يعني بكل بساطة أن تكون هنالك مؤسسات ديمقراطية تحكم بعدالة واستقلالية متمثلة بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
لقد أحدث غياب تداول السلطة، وغياب الحكم الرشيد في المنطقة العربية هذا التأزم.فلم يتم أخذ الاصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية على محمل الجد، مما أحدث فراغاً سلبياً في الحياة السياسية في مختلف البلدان العربية، وقاد بلا شك إلى فوضى نرى آثارها ماثلة أمامنا.
أضف إلى ذلك التدخلات الاقليمية والدولية بالشأن العربي. وهذه التدخلات أصبحت علانية، في ظل الوهن والضعف الذي أصاب النظام السياسي العربي المتهالك، فدخل على المشهد الاقليمي أيران وتركيا، وعلى المشهد الدولي أمريكا وإسرائيل وروسيا وعدد من دول الغرب، وكل يعتقد أنه يحمي مصالحه وعمقه الاستراتيجي في المنطقة العربية.
لكــن لا شك أن السبب الرئيس فــي هذه الصراعات على المستوى العربي هو الصراع على السلطة.فقد ضحت الأنظمــــة العربية بالكثير من سيادتها، مقابل بقائها في السلطة، الأمر الذي أحدث فجوتين رئيستين:
الفجوة الاولى: غضب الشارع العربي وممثليهم من ديكتاتورية الحكم، وعدم مشاركتهم في القرار السياسي، وهو أمر ما زال ممارساً. والتفريط بحقوقهم ومكتسباتهم الوطنية ومصادرهم الطبيعية. والشارع العربي خاصة الشباب لم يعد مقتنعاً أن الأنظمة العربيــة تريد عقد الاصلاحات التي يريد بل يؤمن هو بدعم الشباب، أن هذه الأنظمة تماطل كسباً للوقت. وأصبح الشعب العربي يدفع فاتورة هزائم النظام السياسي العربي، وفساده وتبعيته، والأهم أن هذا النظام العربي الحالي أدخل العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان في آتون حرب اهلية لتخدم بقاءه في السلطة. والشعب على قناعة أن عقلية النظام السياسي العربي القائم قبل ثورات الربيع العربي عادت لتتحكم بمفاصل الحكم. أضف إلى ذلك ان النظام السيـــاسي العربي قبل احتلال فلسطين هو نفسه بعد الاحتلال، ساهم ألى حد كبير في ضياع كامل فلسطين، وأنه ركب حصان القضية الفلسطينية ليحقق بقاءه في السلطة.
في ظل هذا الفراغ السياسي الكبير بعدم مشاركة الأحزاب والقوى السياسية وممثلي الشعب، ظهرت الحراكات الدينية التي تدعي انها البديل السياسي للنظام القائم. وساهمت ومن خلال ثورات الربيع العربي بتحريك قواعدها، لتأخذ حصة في المشهد السياسي.لكن الملفت للنظر، أنه خرج من رحم الحراك الديني المعتدل، حركات دينية راديكالية متطرفة.التف حولها الكثيرون، وشكلت لاحقاً علامة فارقة في المشهد السياسي.
الفجوة الثانية: وكي يحافظ النظام السياسي العربي على بقائه وديمومته وبدلاً من أن يعقد تحالفات شعبية ويعمــق مشاركــــــة الفعاليات الشعبيــــة والسياسية في بلدانهم، قام بعقد تحالفات إقليمية ودولية أدت إلى المزيد من تشويه صورته، وزادت من نفور الشعب منه أكثر.
وفي ضوء ذلك تهاوى النظام العربي وبرز هنالك تحالف اقليمي دولي تقوده الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل وعدد من الدول الغربية، وفي ظني أن هذا التحالف يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة وهو على وشك النجاح في ذلك. أمام تحالف مماثل تقوده إيران وروسيا في الجهة المقابلة.
هذه التحالفات جاءت بناء على وضع عربي متأزم، وليس اعتماداً على تحالفات ندية، وبالتالي كان النظام السياسي العربي متقمصاً لدوره الذي يتلقى التعليمات وينفذها بحذافيرها وبناءً على مخطط مسبق. من وجهة نظريأن هذا المخطط ما هو إلا سايكس بيكو القرن الحادي والعشرين، وسنرى أن هذا المخطط سوف يرى النور أسرع مما نتصور.
فها هو العراق اعتماداً على دستور بريمرسيئ الصيت فــــي طـــــور التقسيم الى ثلاث مناطق: سنية وشيعية وكردية وقد يخسر العراق بعضاً من أراضيه. وكذلك الامر بالنسبة الى سوريا الذي يسير الى تقسيم طائفية سني علوي، وعاد الحديث إلى اليمن الجنوبي واليمن الشمالي، والصراع في ليبيا لم يحسم بعد مساره، وهو سائر لتقسيمه إلى أقاليم لحقن الدماء. أضف إلى ذلك تداعيات العملية السياسية في لبنان وما سيؤول اليه الوضع الاقليمي.
هذه الدول والقوى سواء الإقليمية أو الدولية غير مكترثة أو غير معنية كثيراً لموت الآلاف من العرب والتناحر بينهم، مادام ذلك يحقق لهم مصالحهم الجيوسياسية. ولم ولن يذرفوا دمعة على من يموت في هذا الصراع، خاصة انهم يقاتلون العرب برجال العرب وبسيوفهم. والأدهى أن النظام السياسي العربي أيضـــاً قبل ويقبل الموت لابنائه في ظل الصراع والحروب الاهلية التي تعصف بالبلدان التي أصابها التغير.
كذلك فإن خطط وإجـــراءات وسياسات إسرائيل تجاه الأراضي المحتلة أصبحت واضحة لا لبس فيها.والحقبة القادمة، إن بقي الاحتلال قائماً، ستكون في مجال ضم الضفة الغربية أو بعضٍ من أجزائها إلى إسرائيل وإعلان يهودية الدولة وتقاسم الحرم القدسي بين الديانتين الإسلامية واليهودية. وذلك استعداداً لبناء الهيكل المزعوم.وهذه المرحلة ستكون من أهم مراحل المشروع الصهيوني في فلسطين، هذا الجانب من الأحداث يخص الأردن بالذات ويمس أمنه واستقراره. وللأسف سيبقى الصمت العربي إن قامت الحكومة الإسرائيلية بذلك، وسيتزامن ذلك مع ظهور حدود جديدة في منطقتنا.
السيدات والسادة،
كان لا بد من استعراض هذه التطورات، كمقدمة لتبيان تأثر الأردن بمحيطه العربي، وإن الخطر والتغيير أصبح على الابواب بل على الحدود. ولإظهار كم هي الأوراق السياسية والأمنية متداخلة ومعقدة حيث أن القيادة السياسية العليا الاردنية تسير بحذر شديد في حقل من الالغام، لتجنيب البلدالشر المحيط من أن يدخل علينا.
السؤال الكبير الذي يدور في ذهن الأردنيين هو: في ضوء تلك الأحداث الكبيرة والتغييرات في الأنظمة وفي الحدود وفي التحالفات، وفي ضوء انهيار النظام العربي، هل نحن جاهزون كدولة ومجتمع فــي مواجهة تلك الاحتمالات وهل نحن قابلون لخلــق كيانات طائفية وخلق كيانات تخترق سايكس بيكو أمنياً؟ نعم نحن جاهزون ونحن نقر، بل نفخر بأن الأردن اجتاز كل النكبات والنزاعات التي حلت بالمنطقة وبــــه، وبقي واقفاً على رجليه بوعي شعبنا بكافـــة فئـــاته. وإيمانه بأهمية المحافظة على الأمن والاستقرار. ونفخر ايضاً بجاهـــزية القوات المسلحة بكل فئاتها وأسلحتها وبقدرتها على حماية الوطن وبموجب الـــدستور الأردني، فإن مهمة الجيش هو الدفاع عن الوطن. وواجبنا أن نقوى هذه القدرات وتوسيع مداها.
ولكن علينا أن نقر أيضاً أن العوامل الداخلية المجتمعية والمعيشية لها أثر كبير على الاستقرار، وأن نقر أن هذا الزمن مختلف عما سبق فالعالم تغير والأخطار التي نواجهها مــن كل الأماكن ليست كلها أمنية أو عسكرية من خارج الحدود، بل هي أخطار داخلية أيضاً ناجمة عن فقر وترهل إداري. ونحن نعرف أن إرهاب الجوع أقوى وأخطر من إرهاب السياسة. كما نعرف أن هذه الصراعات والاقتتال وعدم الاستقرار في بلدان الربيع العربي وتداعيات ذلك على الوضع الأمني والسياسي على الأردن سيبقى يهدد أمننا لحقبة طويلة من الزمـــن. إذ لا يوجد بصيص أمل لعودة الهدوء إلى تلك الدول.
وكما أن القوات المسلحة عليها مسؤولية الدفاع عن الوطن وتقوم بواجبها خير قيام، فإننا نريد أن تكون الدولة الاردنية بكافة فئاتها المجتمعيــة والهيئات والإدارات المدنية تقوم بعملها ومسؤوليتها خير القيام.إذ لم يعد ممكناً أن تدار أمور الدولة ونحن نمر بهذه الازمات بردود الفعل أو التعامل مع الأحداث بالقطعة. بل من خلال مراجعة شاملة لكل السياسات والتشريعات ووضع الخطط الإستراتيجية لكل قطاعات المجتمع مستخلصين العبر مما يحدث في دول المحيط الملتهب حولنا، على أن يقوم على تنفيذ ذلك ائتلاف وطني يسعى لتحصين الجبهة الداخلية. وهذا أمر سوف يكون ظهيراً للقوات المسلحة في حماية الأمن والسلم الوطني.
ويرى الاردنيون أهمية خلق المناخات المواتية لتحقيق ائتلافات وطنية وحزبية تؤهلهم للسير في إعادة اللحُمة في المجتمع الأردني وفي بناء ديموقراطية حقيقية وواقعية. وتعميق الدولة المدنية بجميع مكوناتها بعيــداً عن فكر التطرف والإقصاء والتهميش، وإسقاط مفهوم الإقصاء.
وبإذن الله، سوف يقف مجلس الأمة مع قانون إنتخاب يحقق التمثيل الشعبي الصحيح كي يكون مجلس النواب القادم رأس الحربة في المراجعة الشاملة التي ذكرتها، وسوف يقضي على أية محاولات لإبقاء الصوت الواحد.
سيادتي وسادتي،
هذه ليست مناكفة سياسية، ولا هي دعوة ضد حكومة ما أو شخص ما، ولا هي رغبة بالعودة للمنصب.إنها دعوة مستمدة من الأوراق النقاشية الخمسة لجلالة الملك عبد الله الثاني، وهي دعوة مستمدة أيضاَ من نجاحات القوات المسحلة الأردنية في الحفاظ على أمن الوطن ورص الصفـــوف. إذن هي دعوة صادقة ومجردة من أي أهداف إلا الهدف الوطني، فالعدو أصبح أمامنا وعلى حدودنا، والبــــحر (إسرائيل وخططها التوسعية) من ورائنا. والأردن ليس خارج العاصفة ولا بوليصة تأمين لديه، تأمين الأردن هو الشعب وتماسك وصلابة الجبهة الداخلية وتأمينه، هو الشعب والمؤسسات الدستورية.