كلمة تأبين الدكتور يعقوب زيادين
ألقيت هذه الكلمة بدعوة من لجنة تأبين الدكتور يعقوب زيادين والتي أقيمت في المركز الثقافي الملكي بتاريخ 3/5/2015
ليس مــــن السهل اختزال حياة شخص بقامة يعقوب زيادين وتاريخه النضالي، بكلمة او حتى بكتاب.فالرجل مخزون في مسيرة الحركة الوطنية في الاردن، وهو سنديانة اليسار الاردني التي لم تشخ او تنحنى، رغم المعاناة والقهر والسجن.
هو وطني، بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا معه بمعتقداته.ومما شك فيه أن الأمم تُبنىْ بهكذا رجال، خصوصاً من يتمتعون بخصال الخلق الطيب، والقيم الإنسانية الرفيعة، وهي خصال تتناسب وسيرته الوطنية.
فمن قرية السماكية شمال مدينة الكرك، كانت انطلاقة وعيه، وتشكلت شخصيته في دمشق والقدس وعمان.شكل ثالوث الفقر والاستبداد والطغيان وعيه، ومن الطبيعي أن من يسكنه هذا الثالوث أن يتوجه في نضاله ضد الاستعمار والاحتلال بجميع أشكاله، وضد الفقر والاستغلال حيثما كانوا. ولذلك كان من الطبيعي أن تلتقطه أية اشارة من الفكر الذي يتبنى هذه الأفكار. وكان ذلك حين التقاه نبيه ارشيدات الذي زكى انضمامه للحزب الشيوعي السوري اللبناني عام 1943، كما اشار المرحوم زيادين في كتابه "البدايات".
درس المحاماة، لكنه عزف عنها لأنه لم يكن يرغب إلا بالطب تخصصاً، وأصر، فاكمـــل تخصصـــــه في الطب، ولربما كانت المغريات كثيرة كي يغير توجهه في ظل هذا التخصص، وأن يختار شكل الحياة التي يريد بعيداً عن المعاناة. إلا أنه اختار الطريق الذي قاده إليه وجدانه وشخصيته المناصرة للحق، ليكون إلى جانب الفقراء والمظلومين، ناضل ما يزيد عن سبعين عاماً لتحقيق رؤيته في ازالة الفروقات الطبقية ومحاربة الظلم والاستبداد والاحتلال. ودفع لذلك ثمناً غالياً من عمره لأجل المحافظة على مبادئ، فقضى ما يقارب من اثنتي عشرة سنة يقارع فيها السجن والسجان، وتعرفه جيداُ السجون وتعرف صلابته، لقد اختار صاحبنا ألا يلبس ثوب الراحة وهو يرى المعاناة تكبر أكثر وأكثر في وطنه.
إيمانه بالفكر التقدمي، قاده الى ان ينتقل من عضو في الحزب الشيوعي السوري اللبناني خلال ثماني سنوات من عام 1943 إلى أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الأردني عام 1951 وأن يتم اختياره عضواً في اللجنة المركزية. وهذه فتحت له الآفاق، لما عرف عنه من تواضع، وقربه من الجميع. وتم انتخابه عضواً في البرلمان الأردني عن دائرة القدس. وبعدئذ إنتقل لقيادة الحزب الشيوعي الاردني خلال الفترة 1987 وحتى عام 1997، ثم رئاسة الحزب عام 2015. وكأن في عودته لرئاسة الحزب تكريماً له واعترافاً بالتاريخ العريق والنضال الذي خاضه ما يزيد عن سبعين عاماً.
هذا الاختبار له كنائب ما أتى إلا ليمثل شخصية أردنية أصرت على مفاهيم الوحدة الوطنية والتلاحم الوطني بعيداً عن الممارسة الجهوية والطائفية والاقليمية، لقد مثل يعقوب زيادين هذه الحالة واختزلها في علاقته النضالية شرقي وغربي النهر، وكانت علامة فارقه له.
وهو ما دعونا إليه في إطلاق قانون انتخاب يعتمد المعايير الصحيحة ويسقط أية تقسيمات تضعف بناء الدولة المدنية، وهي الدعوة ذاتها للأحزاب السياسية الأردنية في أن تمكن نفسها في إطار ائتلافات وطنية قاعدتها البناء الديمقراطي الحقيقي الذي يتيح لها تداول السلطة وممارسة دورها الصحيح، وأصبح واضحاً أن قانون الصوت الواحد قد أضحى خارج الزمن وخارج المسار الديموقراطي الإصلاحي.
وأن أثره على المجتمع السياسي والاجتماعي الأردني وعلى الوطن والمواطن ومصداقية الإصلاح كان سلبياً للغاية.
لقد جسد انتخاب يعقوب زيادين التوافق الوطني غرب النهر وشرقه. لأنه كان انتخاباً نقياً ونزيهاً يمثل التطلعات الشعبية في أن تنسحب الحالة على نواب الوطن ليتم اختيارهم لكفاءتهم وقدرتهم على تحقيق طموحات المواطن والوطن. وليس اعتمادا على حسابات ضيقة في الفئوية والطائفية والعشائرية والإقليمية.
وهذا التقسيم الذي يصغر الوطن والدولة، دعونا في أكثرمن مناسبة لإزالة تشوهاته وإلى أهمية أن تندمج جميع هذه القطاعات في إطار دولة القانون وسيادتها. وهي الدعوة التي أطلقناها ونطلقها باستمرار قوى المجتمع الحية المؤمنة بأهمية تعزيز البناء الديمقراطي من خلال فصل للسلطات التنفيذية والتشريعة والقضائية ووقف تغول أية سلطة على أخرى.
نعم، كان انتخاب يعقوب زيادين ابن السماكية في الكرك الأبية، عن المقعد المسيحي عن دائرة القدس عام 1956، تعبيراً عن التلاحم الوطني الذي كان سائداً في تلك الفترة، وإسقاطا للفكر الاستعماري المتخلف الذي يسعى إلى أن يقسمنا إلى ملل وطوائف واقاليم.
ولو تأسس هذا الفكر وساد، كنا سنعيش اليوم حالة مختلفة في سيادة دولة القانون والدولة المدنية. ولأسسنا لديمقراطية المؤسسات التي هي سند حقيقي لدولة القانون والدولة المدنية. ولكان بامكان الاحزاب السياسيــة أن تتداول السلطة في تشكيل الحكومات، وقد عشنا هذه الخبرة في حكومة الراحل سليمان النابلسي، وهذا يتطلب من الأحزاب السياسية العمل بجهد اكبر على تمتين قواعدها بشكل اقوى وان يكون الشباب هم العنصر السائد وأن تشاركهم في صناعة البرامج التي تلبي طموحاتهم، ليكون ذلك عنصر جذب لهم، وأن نسقط المقــولات التي تختبىء وراءها بعض القيادات الحزبية والسياسية لأنها أصبحت مقولات بالية، لأنه في الحقيقة لا يوجد مسؤول "الله خلقه وكسر قالبه"، لكن هنالك ديكتاتورية لا تسمح للشباب تبوّؤ سلم القيادة لتنفذ أفكاراً أكثر جرأة.
لم ينحصر نضال يعقوب زيادين في الخندق القطري الضيق، بل تعداه إلى الآفاق العربية والعالمية ضد الاحتلال الصهيوني الاسرائيلي لفلسطين، وانطلق أيضاً الى النضال في إدانة أي تدخلات اجنبية تساهم في شق الصف الوطني العربي. ومنه كان موقفه حازماً ضد التمويل الاجنبي الذي أخذ منه موقفاً قام على إثره بتشكيل تيار خاص به عام 1996.
الحضور الكـــرام،
إنني أزعم أن عنصر الشباب -قادة التغيير الحقيقية وفرسانه -والذين تتعدى نسبتهم نصـــف سكان البلد، غير مندمج في تلك البهرجات الاعلامية التي يروج لها الإعلام الرسمي، لأن الظرف أمام هؤلاء الشباب قد تغيرّ، ولأن مصداقية الحكومات في تراجع.
نستذكر "أبا خليل" وكلنا أمل أن تتم المحافظة على قيمٍ عَملَ لأجلها وناضل وعانى لتبقى علامة يستهدي بها أصحاب الضمائر.
وأن نتذكر جيداً أن التنوع السياسي الاجتماعي تحت مظلة التماسك وعدم التفرقة هو سلاحنا القادم، وهو الحل الأمثل لقطع الطريق على التطرف الصهيوني الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته التي يسعى إليها وبخاصة ما يسمى بـ "يهودية الدولة" والتي تشكل خرقاً عنصرياً آخر لإحتلال كامل فلسطين وتهويدها وما يتبعها من إجراءات تهجير، ستشكل خطراً على دول عربية.
ونحن إذ نعزي أنفسنا برحيل الفقيد وكلنا دعوات أن يتوكله الله برحمته، نستذكر مسيرته، التي ستبقى نبراساً مضيئاً في طريق الوعي والتقدم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته