في العيادة السياسية الأردنية: استرداد الثقة لحماية الشعب والدولة
مقال، نشر في جريدة الغد يوم 29 نوفمبر 2015 ونشر في موقع رم الاخباري
في الوقت الذي نعد لانتخابات نيابية مفصلية، على طريق الإصلاح والتحول الديمقراطي، وعلى طريق إعادة الثقة في العملية الانتخابية ونزاهتها، وفي صدق التأكيدات الحكومية، بأنها ستكون بالفعل نزيهـــة وشفافة، في هذا الوقت يضرب الإرهاب بقسوة وعنف شديدين، أنحاء كثيرة في العالم، كان آخرها، وليس اخيرها، أحداث باريس الموجعة، وإسقاط الطائرة الروسية، وهي بالنسبة لأوروبا ولفرنسا احداث تعادل خطورة وأهمية تدمير البرجين في نيويورك في 11 سبتمبر. وسيذكر التاريخ ان كليهما سيكونان حدثين حاسمين في تاريخ العالم.
واصبحت "داعش" والتطرف الديني عاملاً رئيسياً في خلق عداوات واسعة النطاق، بين الديانات والحضارات والشعوب. ومن المنطقي الإفتراض بأن اليمين المتشدد في أوروبا، سوف يحرز نجاحات سياسية بعد هذه الاحداث، وبذلك سيتواجه اليمين المتشدد في الغرب، مع التعصب الديني في الشرق، وعندها ستكبر كرة ثلج العداء، وستجرف أمامها معاني وعلاقات إنسانية وحضارية راسخة. ولغاية اليوم لم تستطع كل جهود الدول والمؤسسات ايقاف هذا التمدد الوحشي، غير المتوقع (أو على الاقل هكذا ادعت تلك الدول والقوى). وبقي تحرك الإرهاب والإرهابيين أسرع من جهود الدول والأجهزة الأمنية في مقاومة الإرهاب والقضاء عليه.
نحن في الأردن، والحمد لله، ما زلنا في منأى عن هذه الاوضاع، لكن (ما انا إلا من غزية). فنحن أبناء هذه المنطقة، لا بل نحن في قلبها، نتأثر بمجرى بأحداثها، الامر الذي دعا الأردن لزيادة مساهمته في ضرب الإرهاب، و"داعش" تحديداً.فأصبحنا في قلب العاصفة.
لقد تغلب الأردن عبر تاريخه على عشرات العقبات، وربما المؤامرات، التي حيكت ضده منذ ان كان إمارة عام (1921) وحتى يومنا هذا، وبفضل وعي الشعب والترابط العضوي بينه وبين قيادته، تمكن الأردن من النجاة مما أصاب دول الربيع العربي، تلك التي خضعت إما لتحولات جذرية في النظم السياسية، أو تلك التي ما تزال تنخرط في حروب داخلية بين قوى الشعب المتصارعة، فيما بينها، أو بين قوى الشعب والنظم القائمة. وهذا الترابط العضوي يجب أن يبقى موجوداً وراسخاً حتى تسير القافلة بهدوء وتخطيط.
لكن المنطقة تعيش ظروفاً سياسية واجتماعية لم نشهد مثلها، منذ قرون، فعنوان هذه الحقبة، التطرف والإرهاب والقتل والتدمير والانقسامات الاثنية والطائفية والقومية، ونشهـد إنهيار النظام العربي، ومنظومة العمل العربي المشترك. كما أصبح العدو -سواء من داخلنا أو خارجنا-يستفرد بنا بلداً بلداً، ولا أظن أن أمة أخرى في العالم، عاشت كل هذه الأزمات، أو عانت من كل هذه الاحداث في حقبة واحدة.
إن نجاة الأردن من عواصف الربيع العربي لم تكن وليدة الصدفة، فقد كانت استجابة الدولة والنظام لشروط تلك التحولات سريعة إلى حد ما، وكان وعي الأردنيين يسبق بكثير تلك التحولات، التي لم ترض طموحاته، لكنها في المقابل عززت قناعاته بأن الخلاف ليس على النظام أو معه، وإنما على سياسات يمكن إصلاحها، وعلى مسؤولين فاتهم الزمن والحدث، وعلى (سيستم) تراجع أداؤه وترهل.
ونجا الشعب والنظام معا مما كان يمكن الوقوع فيه، من مخاطر أو انزلاقات، لن يكون مصيرها بأفضل مما آلت اليها أنظمة ودول عربية اخرى، بدت قبل الربيع العربي أكثر من راسخة، حتى إذا ما بدأت رياح التغيير تهب عليها، انهارت وتلاشت.
السفينة الأردنية الناجية من أمواج وعواصف انهيار النظام العربي، منحت الأردن مكانة قي الاقليم والعالم، فقد تحول الأردن إلى قدوة حقيقية في العلاج، وبدت (الروشيتة) السياسية الأردنية، وكأنها مسطرة مستقيمة، يمكن تطبيقها إقليمياً على دول وأنظمة شبيهة بنظامنا ونموذجنا الوطني الأردني.
نحن نتمتع الآن بمكانة جيدة، ليس بسبب الحكمة والاعتدال فقط، وإنما لكوننا قدمنا تجربة فريدة للمنطقة والعالم، تمثلت بالدرجة الأولى بقناعة شعبية واسعة النطاق، اعتمدت على قاعدة المصلحة الحياتية والوجودية لكل من الشعب والقيادة، ومن هنا أصبح الشعب، مماجعل الإصلاح مطلباً وطنياً جامعاً، وعجل بوتيرة الإنجاز.
بالرغم من كل تلك الإنجازات، علينا أن نعترف بكل جرأة وثقة، أن جوانب كثيرة من المجتمع الأردني أصبحت موبوءة بممارسات فوضوية أو عدوانية، معظمها يمر دون انتباه أو ملاحظة، وبعضها يتم التعتيم عليه، وبعضها نجد له تفسيرات ساذجة وبعيدة عن الواقع، وبكل وضوحأ قول إنّ المجتمع الأردني قد تغير، وإن الهوة بين الاجيال أصبحت واسعة، وكذلك بين المواطن والمسؤول. إن الشباب الأردنــي في أزمة خانقة، أزمة انتماء وهوية، والفقر والبطالة هما العاملان الرئيسيان في خلق هذا الوضع. الفقر يدمر المجتمعات والقيم. ودعاة التطرف والتشدد تتقوى بهذه الاحوال والاوضاع، والأردن ليس استثناء.
في ظل هذه المعطيات يبرز عند الأردنيين جميعاً السؤال الوطني والمستقبلي، عما يمكن أن نفعله كخطوات عملية لتجاوز حزمة التحديات والاجتهادات والسياسات التي مررنا بها خلال السنوات العشرة الماضية، والتي قادتنا إلى هذا الوضع الأردني الفريد من نوعه، إعجاب عالمي واسع بالدور الذي يقوم به الأردن، وبالحنكة السياسية والدبلوماسية التي يتمتع بها ويمارسها، وبين الوضع الداخلي المتأزم في مناحي حياة المواطن المعيشية والاجتماعية والسياسية والإدارية والقيمية. وهو تساؤل مشروع، وعلينا أن نجيب بجدية وموضوعية عن هذا السؤال المهم، هذا التساؤل امتد إلى خارج حدودنا، فلماذا لا نكمل هذه الحالة الفريدة، التي قدمناها للعالم، فالفرصة ما تزال متاحة لاستثمارها لإعادة أمور الدولة الداخلية إلى أوضاعها السليمة. فالظروف استثنائية وغير إعتيادية، وتتطلب سرعة العمل، كما تتطلب إجراءات استثنائية بالمعنى الشامل. وعلينا أن نستفيد من نجاحات الخارج حتى تستمر مسيرة النجاحات الأردنية.
اولاً: قد تتعدد الاجابات والاجتهادات عن هذه التساؤلات، إلا أنني أرى أن الاعتراف بوجود مصاعب ومشاكل اقتصادية واجتماعية ومجتمعية حقيقية، هي بداية الحل الامثل، حتى نستطيع أن نتعامل مع هذه التحديات. فالقصور المتراكم تجاه التخطيط الاستراتيجي والإدارة الكفوءة لم يحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب، الذي لا يجد عن قيمة الصبر والانتظار بديلاً.
ثانياً: إن الإعتراف بوجود هذه التحديات والقضايا يجب أن تصحبه إرادة سياسية حقيقية، لتشكل الأرضية الصلبة لإعادة تشكيل وبناء القيم، التي بدأنا نشهد تخليها عن مكانتها، لقيم أخرى خطيرة على ثقافتنا وكياننا. وكذلك السير في بناء منظومة الإصلاح الأردني على أسس ثابتة وراسخة.
ثالثاً: إن هذه الخطوات العملاقة تحتاج إلى فريق عمل ذي صلاحية وبعد نظر ونزاهة، بحيث يثق الناس بهم وبما يقومون به، فالإرادة والاستمرارية والنزاهة هي ثلاثة عناصر ضرورية لإعادة المجتمع الأردني إلى الطريق الوطني والإنساني. كما أن وضع خطط بعيدة المدى سيجهض كل محاولات واضعي العصي في دولاب الإصلاح وطالبي التجزئة، ويجعلها مجرد فقاعات في الهواء.
رابعاً: نحن نحتاج إلى الشجاعة الكافية للاعتراف بأن الدولة لم تنجز ما يطمح الناس لتحقيقه من تغيير إيجابي في حياتهم. وابدى جلالة الملك ملاحظات متكررة حول هذا التقصير. ونرى أننا وبالرغم من السنوات القليلة الماضية التي شغلنا الناس والاعلام عنها، بأحاجي الإصلاح وألغازه، إلا أننا ما زلنا بعيدين عن الإنجاز الحقيقي والملموس، وبقيت الإنجازات متواضعة، خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. وبقينا نحتكم إلى منطق العاطفة والترويج لشعارات فارغة من المحتوى، لم تعد مقنعة للناس.
خامساً: إن تحقيق مبدأ سيادة القانون وتطبيقه على الجميع، دون استثناء أو محسوبيات، هو الذي يمنح المواطن الأردني ثقة مضاعفة بنظامه السياسي، ونظامه القانوني، ونظام العدالة الشاملة، التي لا تفــرق المواطنين في حقوقهم وواجباتهم، وهذا ما يتوجب على الدول العمل به وفق استراتيجية مستدامة، وتكريسه على أرض الواقع، إن عدم تحقيق هذه العدالة يؤدي بالنتيجة الى التجاوز على المبدأ الدستوري والانساني الخاص بمبدأ وقيمة تكافؤ الفرص، وهو المبدأ المصان دستورياً. ولم يسجل في مسيرة الإصلاح حماسة لصيانة هذه القيمة الإنسانية والدستورية. ولهذا بدأ المواطنون يفقدون ثقتهم بنظام العدالة القانونية.
سادساً: نفتخر ونعتز بدستورنا، وبما تضمنه من مبادئ ومفاهيم ومعان إنسانية حضارية سامية.وندعو للتعامل معه وما يحمله من معان بكل موضوعية وبالمفهوم السياسي والقانوني. إن الدولة المدنية الرفيعة المستلهمة من التعددية وحق الاختلاف، وسيادة القانون، وحرية التعبير، والحكم الرشيدوالنزاهة، حاضرة بقيمها ومعناها في الدستور. ومن المفترض ان تنعكس في القوانين والممارسات بعيداً عن إنحراف معانيه السامية عن قيمها وهدفها. وبعيداً عن جعلها مجرد وجهات نظر يفصلها صاحب كل هوى على قــوامه.وفي هذا السياق، فإن الحكومات التي تمارس مهامها الدستورية، وتتمتع بالكفاءة والقبول من الناس، هي عنصر أساسي من عناصر تقوية النظام، وفي تقوية النسيج الاجتماعي، وتقوية مناعة المجتمع أمام هذه الهجمة الظلامية، التي نواجهها داخلياً وخارجياً. كما أن تقوية دور المؤسسات الدستورية وقياداتها هي بنفس الاهمية.
إن تراجع مفهوم ومعاني (الدولة) في الممارسات الإدارية والسياسية والمجتمعية، هي من أهم الأمور التي يجب أن نراجعها، ونعيدها إلى وضعها القانوني والدستوري، خاصة في هذه الايام، حيث نرى أمامنا مجتمعات عربية تتشرذم وتتبعثر وتتقسم.
وهذه فرصة سانحة لنشرك كل فئات المجتمع الأردني في صنع القرار، وفي الانضواء تحت مظلة الوطن، وترسيخ مبدأ ومفهوم المواطنة. في ضوء اللجوءات الكثيفة والممتدة، فإن ترسيخ مبدأ المواطنة والمؤسسية وهما عماد دولة القانون والامان والنظام السياسي ورسوخ الدولة، هما عنصران هامات في سلسلسة الإجراءات.
هذه مبادئ أساسية، لا بد من تطبيقها بحسن نية، فيما إن أردنا أن نواجه حقائق وأوضاع الفترة القادمة، وكلها مبادئ او ثوابت بديهية، بالنسبة للمفاهيم الديمقراطية الإصلاحية.
إن نجاحنا في امتصاص انحراف ما سمي بالربيع العربي، هو ما دعاني على أن أبدي هذه الآراء والكتابة بشإنها. وما حققه الأردن من نجاح في الخارج، بالإمكان ان نحرزه في الداخل، وما تشهده المنطقة من أوضاع وتحالفات جديدة ومختلفة عما كنا نتعامل معه قبل الربيع العربي، وحري بنا أن نتحلى بالادارة والإرادة، حتى نكون جاهزين وقادرين على التعامل مع الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأت ملامحه تتشكل، وحتى نستطيع أن نحمي مصالح الأردن الوطنية وهويته، وأن يكون بإمكاننا أن ندافع عن قرارنا الوطني، بل ونفرضه.
نحـن نرى أن الوضع في سوريـــة بدأ يميل إلى حل ما (إلى أن أسقطت الطائرة العسكرية الروسية)، وأن روسيا هي العراب وصاحبة الكلمة الأولى في الحالة السورية، وأن إيران تعطي اتفاقها مع الولايات المتحدة أهمية خاصة، وهي تريد تدعيم هذا الاتفا، بحيث أنها فوضت روسيا للتعامل نيابة عنها في مشروع الحل الروسي.
إن خريطة الشرق الاوسط الجديد (وهو تعبير أميركي اصلاً) قد تم إقرارها، من قبل دول وقوى دولية وإقليمية، وليست عربية. ومنذ نهايات القرن التاسع عشر، ومصائر المنطقة وحدودها تقررها مؤتمرات أجنبية، تحدد الحدود والشروط، وحتى أنها تقرر في مصائر الأنظمة. هذا مخاض جربته الأمة العربية سابقاً، وهو مخاض شديد الخطورة، ويشبه الرمال المتحركة، وصفقاته غير معروفة الحدود، ويتكرر هذا الامر حالياً مع إعادة صياغة المنطقة، وبناء الشرق الاوسط الجديد.
بمنتهى الصراحة والصدق، أذكّر أننا لسنا بمنأى عن المحاولات المتكررة للمتربصين بنا لـزعزعة استقرارنا.ووحدتنا والتماسك الداخلي والإصلاح الشامل والجاد، هو أكثر من ضروري لحمايتنا، وهي أمور ومناخات مختلفة عما كنا نتعامل معه قبل الربيع العربي. إضافة إلى ذلك، فإن ما يجري اليوم في سورية بالذات، هو عبارة عن حرب عالمية ثالثة مصغرة، فكل الدول العظمى والدول الإقليمية الاساسية، وحلف الناتو ومنظمات الإرهاب -بكل تنظيماتها-تشارك بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب، سواء بالدعم العسكري المباشر، أو غير المعلن، أو بتقديم المعلومات واللوجستيك أو التمويل المالي الحكومي أو الخاص.
كما أن تطرف المجتمع الإسرائيلي وحكومة نتنياهو وسياساته في فلسطين، تضع الأردن في وضع حذر وخطير، ولا يمكن أن يثق أحد بحكومة نتنياهو، أو بوعودها وسياساتها. وبنفس الوضوح أقول إن خطر سياسات ونوايا إسرائيل تجاه الأردن، لا تقل في خطورتها على المدى البعيد عن خطر الإرهاب. نتنياهو لن يلتفت إلى كل التنديدات من حلفائه ولا للاحتجاجات في بلاد العرب والمسلمين، لأنه يعرف أنها فارغة، ولن تصل إلى حدود الردع، وهو يحقق ما يخطط له سواء في القدس أو الضفة.
ولا بد من استكمال هذه الرؤية بالقول، إن إنخفاض أسعار النفط المتوقع له أن يستمر لفترة قادمة، سوف يؤثر بشكل سلبي وكبير على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي-خاصة السعودية-المنهمكة في حرب مكلفة ومؤلمة في اليمن، وهذا يعني بالنسبة للأردن، إن الدعم المالي الخليجي للأردن سوف يتأثر سلبياً، والأهم والأخطر، هو أن وضع المغتربين الأردنيين في دول الخليج، سيتأثر هو الآخر.
وقد أصبحت تداعيات كل هذه القضايا واضحة على الأردن، فهذه كماشة سياسية اقتصادية مجتمعية مثلثة، تحيط بالأردن، تجعلني أزداد قناعة، بأن الفرصة سانحة ومؤاتية لنا في الأردن، كي نقيم صرحاً متماسكاً وقوياً، وسوراً منيعاً في وجه هذه الاحتمالات، وفي وجه المؤامرات والعدوان والظلامية والفوضى والاحتلال. هذه حلقة متكاملة من الاحداث التي تحيط بالأردن من كافة الجهات، وحتى من الداخل، قد يترتب عليها تداعيات إقليمية، قد لا يكون الأردن مشاركاً او مقتنعاً بها.
كما تغلب الأردنيون على مصاعب سابقة، فإنهم قادرون، بل تواقون لحماية وطنهم وقيمهم وهويتهم من أنواء المنطقة، التي قد تطول وتتعقد. الشعب جاهز لكل ذلك، وهو بانتظار إعطائه الفرصة لتحقيق ذلك.