تقديم المؤلف
ليس سهلاً تقليب الأوراق والدفاتر؛ خصوصاً إذا ما اشتملت على عناوين تختصر مشوار عمر بطول، خضت أيامه بين مواقع مختلفة من الوظيفة إلى النيابة ثم الوزارة، وبعدها السفارة، لأجلس خمس أعوام بطولها على كرسي وزارة الخارجية، في ظروف استثنائية، ليختارني الراحل الملك الحسين من هناك رئيساً للوزراء في أعقد مهمة، ثم لأكون رئيسا لمجلس النواب الثاني عشر، وهو المجلس الذي احتوى اتجاهات السياسة وأهلها، خاتما برئاسة مجلس الأعيان، في سنوات صعبة، أقل ما توصف به بـ "سنوات الربيع الأردني".
وبين سنوات هذا العمر، أعتركت بظروف كثيرة، وكان فيها أن ضاعفت في كل منها تجربتي، لأقرر في هذه المرحلة عرض خلاصة تلك التجربة، عبر محطتين، الأولى في كتاب يوثق المواقف، والثانية في كتاب يجمع حصاد السنين ويروي الذاكرة كما هي، دون تجميل أو مجاملة.
ولأن المواقف عرضة للنسيان، فإني أردت أن أقدمها للقارئ كما هي، من دون حذف أو تحرير، موثقا إياها بالتاريخ والمناسبة، وفق تسلسل زمني مرصود، آملا أن يجد القارئ فيها ما يشفع لي أمام زحام الثرثرة التي تقول: إن للسياسي موقفين منفصلين، واحد أثناء جلوسه على الكرسي، والآخر حين يخرج من الموقع العام.
ولأن الله ألهمني الصواب في مواقف كثيرة، كان لكل واحد منها أثر في نفسي، وتكريس لمنهج القيم والمبادئ في عملي، فإني اخترت أن أجعل هذا الكتاب برسائله، وخطاباته، ومحاضراته، التي استعدتها من إرشيف كامل؛ أوراقه اصفرت، وحبره بهت، وملفاته أغبرت، لتكون رسالتي للقارئ. ولعلي اجتهدت وأصبت فيما فعلت، وفي هذا أجرين.ولعلي اجتهدت واخطأت؛ وفيه أجر واحد.
وإني لأجد نفسي اليوم مسؤولاً عن تبيان جوانب مهمة عن مواقف غير معلنة، في مواجهـــة مع التاريخ، لأقول: ثمة قرارات كثيرة اتخذتها في غرف مغلقة، وحوسبت عليها، وطعن بمواقفي بعدها، لكنها لله وللتاريخ والوطن، هي مواقف لست بنادم عليها، فمنذ معارضتي لقرار فك الارتباط، ومنذ ما حددت حكومتي شروطها للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام وتبنيتها، ومنذ إستثنائي من عضوية مجلس الأعيان العام 1997، فإني لا أعرف إلا لغة الإصلاح، ولا أراوغ في استخدامها، بيد أني ما زلت موقناً بأن قوى الشد العكسي هي المعطل الحقيقي لرؤى النظام، الذي ما يزال يحفر في نفق المحافظين لعله أن يوصلهم لإشارة نور.
وإنه وفي خضم الأحداث التي تضرب المنطقة العربية من دون هوادة، وفي ضوء الفوضى الفكرية والضياع السياسي الذي أربك الأمة وأربك المواطن سواءً بسواء، فأنني رأيت من المناسب، بل من الضروري، أن أجمع في كتاب محاضرات ومقالات ورسائل قدمتها ونشرتها خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية.
وليس لي من هدف من نشر هذا الكتاب إلا التوثيق لفكر سياسي واجتماعي آمنت وبشرت وتشبثت به. ولم يكن هذا الفكر جامداً أو متعصباً، بل سعيت معه لمواكبة المتغيرات والأحداث والتقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد شهد جيلي أحداثاً متتالية منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية بعد القضاء على الفاشية نتيجة للتحالف الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والماركسية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي.ولم يلبث أن إنفك هذا التحالف ليقود العالم إلى حروب باردة وحروب ساخنة امتدت على مساحة الأرض. وانقسم العالم إلى معسكرين. ودفع العالم الثالث بشكل خـــاص، ولا زال والإنسانية جمعـــاء ثمنــــاً باهظــاً منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.وبقي الحال على ما هو عليه حتى عندما بقيت الولايات المتحدة القطب الوحيد بعد إنهيار الاتحاد السوفياتي.وها نحن نرى صراع القوى العظمى يتجدد بين الولايات المتحدة وروسيا التي تحاول، وبنجاح، إعادة دورها العالمي وفرض قطبيتها لتعيد التوازن بين القوى الدولية من خلال الصراع القائم حالياً في سوريا وبلاد الشام.
ولا زالت الأيام حُبلى باحداث جسام تقاطعت فيها المصالح الدوليـــة تـــارة، والتقت تارة أخرى، مع كل ما أفرزه من حروب ونكبات وكوارث بشرية لست أشك أبداً، فــــي أن “القضية الفلسطينية" هي جذرها ومبرر حدوثها، جراء تراكم الظلم الدولي الذي أحاط بهذه القضية حتى يومنا هذا. وهو ظلم أنتج طبيعياً كماً هائلاً من استفحال الإحباط الذي ولّد يأساً عارماً، وبالتالي، فكراً مختلطاً بين المقاومة المشروعة حدّ القداسة، والممارسة الشاذة تطرفاً ونمواً، كنتاج لتبلد اليأس الذي يسوّغ لليائسين أو لبعضهم، خروجاً على كل قانون ونظام عام محلياً كان أم حتى دولياً، في مشهد ذي سياق مدمر ليصبح مجرد مواجهة للظلم بالظلم، خلافاً للمبادىء الإنسانية المستمدة من الشرائع السماوية العظيمة.
لقد شغلت عبر رحلة عمل طويلة العديد من المناصب المتقدمة سياسياً وبرلمانياً، وكنت مساهماً في صنع القرار في أحايين كثيرة عبر تلك الرحلة، ومخالفاً للقرار في بعض المحطات، وأجزم أنني قد تمسكت بالمبادىء التي بها أؤمن ولم أحد عنها أبداً، وعبـــرت عن رأيي سواء أكنت في مواقع المسؤولية أو خارجها، وبكل الصراحة والوضـــوح. إنطلاقاً من حقيقة إنني ما إجتهدت يوماً إلا من أجل المصالح العامة بحسب فهمي لها.
لذلك فإني سعيت لبسط ذاكرتي اليوم أمام القارئ.ففي الأمر فض لتشابك حصل، أمام عجاج المتغيرات، وغبار المعارك، سواء تلك الكونية والأقليمية المحيطة بنا، أو تلك المحلية التي نعيش معها، والتي تصنعها النخبة، مبررة لنفسها دورها الفاعل في المشهد السياسي، وتفرض من خلال ما تفتعله أسباب لتظل هي المراجع، على أنها لا تلتزم بأدبيات الاختلاف في وجهات النظر.
هذه الصفحات أتركها بين يديكم، وفيها من المراجعات ما يستحق التأمل، وفيها من الماضي الذي ما يزال حاضراً، فعقدة المطالب الإصلاحية في الأردن أنها بقيت على حالها، ومنذ نحو الـ 25 عاما نرفع ذات الشعارات، لكن في مناسبات تغيرت وفي عهدين لا بد للراصد أن يجد فيهما اختلاف.
إلا أن الثابت الوحيد في معادلتنا الوطنية، هو أن الإصلاح هو مطلب حقيقي، لا ترف فيه، وهو سبيلنا لتحصين أنفسنا من الأخطار الخارجية والمحيطة بنا من كل حدب وصوب.
طاهر المصري
عمان في تموز 2016