Image
Image

كنت سفيراً

 حقبة من تاريخ الدبلوماسية الأردنية، من تجاربي في العمل الدبلوماسي.

 

تلخيص لتجربتي في العمل الدبلوماسي كسفير لمدة عشر سنوات في كل من مدريد، باريس، ولندن، وقدغطت حقبة زمنية مفصلية من التاريخ المعاصر للعلاقات الأوروبية العربية، وقد نشرت في مجلة الاردن لشؤون الدولية في شباط /2008 والتي تصدر عن المعهد الدبلوماسي

 

تجربة دبلوماسية غنية ذات أبعاد متعددة، شكلت حصيلتها شهادات على أحداث تاريخية في أوروبا والوطن العربي، وأبرزت دور الأداء الدبلوماسي الأردني في مراحل مفصلية من التاريخ المعاصر للمنطقة.فبدايات التجربة كانت في إسبانيا حين عادت الملكية إليها بعد وفاة الجنرال فرانكو ومع تسلم الملك خوان كارلوس الحكم واتجاهه إلى الإصلاح والديموقراطية. ثم في فرنسا حيث تطورات السياسة الفرنسية إزاء القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، بما في ذلك تحقيق الاعتراف الأوروبي بمنظمة التحرير وبدء تحرك قطار التسوية في الشرق الأوسط، وجهود القيادة والدبلوماسية الأردنية في هذا المجال.

 

عملت سفيراً للمملكة الأردنية الهاشمية في ثلاث عواصم أوروبية رئيسية، هي: مدريد 1975-1978 وباريس (ومندوباً دائماً لدى اليونسكو) 1978-1983، ثم في لندن التي بقيت فيها من أيلول / سبتمبر 1983 لغاية كانون الثاني 1984 حيث استدعيت لأعين وزيراً للخارجية. لم يكن سني يتعدى الثالثة والثلاثين عاماً حينما أصبحت سفيراً لأول مرة، ما يعني أن تجربتي الدبلوماسية كانت شبه معدومة. أما تجربتي السياسية فإنها كانت متواضعة، وكذلك تجربتي الحياتية، وذلك على الرغم من أنني أصبحت وزيراً للدولة لشؤون الاراضي المحتلة لمدة ثمانية عشر شهراً في حكومة السيد زيد الرفاعي قبل أن أتقلد منصب السفير في مدريد.سفيراً في إسبانيا:

 

وصلت إلى مدريد في نهاية حقبة الجنرال فرانكو، وكانت الحياة الدبلوماسية في تلك الاوقات تسير بوتيرة هادئة، ولم يكن لإسبانيا في تلك الحقبة ما يمكن أن نعده أدواراً خارجية مهمة، كما كانت علاقاتها الثنائية مع معظم دول العالم هادئة إن لم تكون فاترة، خاصة مع دول أوروبا الغربية التي نظرت إلى تحالف نظام فرانكو وكتائب الفلانج أثناء الحرب الأهلية الإسبانبة بقسوة بالغة، وبقيت رافضة لنتائجها عقوداً طويلة. وهكذا ظلت العلاقات الإسبانية مع الدول الديموقراطية في أوروبا ومع دول المنظومة الاشتــراكية تمر بفتورٍ شديد، مما قلص كثيراً من دور إسبانيا في العالم وفي أوروبا تحديداً، وهذا أدى بدوره إلى ذلك الهدوء النسبي في الحياة الدبلوماسية والثنائية في مدريد.

 

وقد أفادني هذا الوضع كثيراً، إذ استطعت الإبحار في محيط الدبلوماسية الجديد عليّ تماماً بكل سهولة ويسر. ولم أتعرض خلال السنوات الأربعة التي أمضيتها في إسبانيا إلى مواقف خطيرة أو أساسية، حتى أنني لم أرتكب أية أخطاء أحاسب عليها، وتركز عملي في مدريد على التعلم والتثقف في المجال الدبلوماسي وفي تاريخ إسبانيا القديم والحديث والحقبة العربية الإسلامية فيها، وأصبحت أتقــــــــن اللغـــــة الإسبانية بشكل مقبول، وأنشأت علاقات شخصية ورسميـة مع الكثير من رجالات إسبانيا الرسميين وغير الرسميين، وساعدني كثيراً في ذلك تلك العلاقة الحميمة التي كانت بين نظام فرانكو والدولة والحكومـــــةالأردنية ابتداء منذ عهد المغفور له الملك عبد الله الأول. وقد ازدادت العلاقات قوة بين العائلتين المالكتين في الأردن وإسبانيا بعد تولي خوان كارلوس العرش، وكان المغفــور له الملك الحسين بن طلال من بيــن رؤساء الدول القلائل الذين حضروا جنازة الجنــرال فرانكـو المهيبة، كل ذلك أعطى السفير وضعاً سياسياً مميزاً، وكان أن اطلعت على خفايا بعض السياسات الإسبانية الجـديدة، خاصة فيما يتعلق بانسحاب إسبانيا من الصحراء الغربية والتجاذبات التي حدثت في ذلك الحين بين كل مـــن المغرب والجزائر وإسبانيا والتي ادت فيما بعد إلى المسيرة الخضراء. وكنت ألتقي بالملك خـــــوان كارلوس والملكة صوفيا مرات عدة خلال العام الواحد، ما جعل لي وضعاً جيداً أمام المسؤولين الأسبان الآخرين.

 

ووجدت في هذه الحقبة تشابها بين العمل الدبلوماسي الذي يتطلب مهارات خاصة ولغة سياسية ودبلوماسية دقيقة ومختصرة، وبين لغة الأرقام التي تعاملت بها لمدة سبع سنوات حين كنت أعمل في البنك المركزي الاردني، فالعمل في كلا المجالين تطلب مني الدقــة والفهم والوضوح أيضاً. ولكنني تعلمت في إسبانيا فضلاً عن ذلك درساً سياسياً وحياتياً إضافياً مهماً للغاية.

 

حين وصلت إسبانيا، كانت يد الجنرال فرانكو ورجالات حكمه المحافظين الحديدية تدير الأمور في هذا البلد، وعلى الرغم من التحديث البطيء والمدروس، والنمو الاقتصادي الذي بدأت إسبانيا تشهده منذ ستينات القرن الفائت، إلا أن رجالات الحكم الطاعنين في السن، من مدنيين وعسكريين، الذيـن هم من مخلفات الحرب الأهلية الإسبانية، كانوا هم الذي يديرون شؤون البلد بقبضة أمنية قوية وأفكار مسيحية محافظة. وكانت كل العلاقات في المجتمع الاسباني بما فيها العلاقات السياسية والعمالية والاجتماعية والاقتصادية، مقيدة بشكل كبير، والمشكلات لم تكن موجودة أو ظاهرة على السطح.والأمــن الداخلي مستتب إلى أقصى الحدود، وتكاليف الحياة رخيصة ومستوى المعيشة يرتفع بشكل بطيء ومدروس. لكن لم يكن هناك ديموقراطية حقيقية، ولم تكن هنالك حريات تذكركان الحصار مضروباً على الرأي السياسي والحرية الفكرية بشكل كبير.

 

بعد تسلمي مهام منصبي وتقديم أوراق اعتمادي إلى الجنرال فرانكو (في نيسان /ابريل 1975) بسبعة أشهر، توفي فرانكو وانتقل الحكم بطريقة سلسة ومنظمة إلى الملك خوان كارلوس. وكان فرانكو الذي حارب ضد الملكية وأزاحها، قد عين نفسه رئيساً للدولة لا رئيساً للجمهورية ولا ملكاً، لأنه أراد أن يلغي الملكية أيام حكمه هو فقط على أن تعود الملكية إلى إسبانيا بعد وفاته، واختار خوان كارلوس لهذه المهمة قبل سنوات طويلة من مماته ودربه في كل دوائر الدولة الإسبانية المدنية والعسكرية والأهلية. وقد التزمت كــل القــوى والمؤسسات بهذا الترتيب، وتم التعامل مع الامير خوان كارلوس – حينذاك – على أنه ملك البلاد المقبل بعد فرانكو، وكان ولاء المؤسسة العسكرية بالذات لنظام فرانكو وسياساته ومبادئه، هو العامل الرئيسي الذي وضع خوان كارلوس على العرش دون أية مصاعب تذكر.

 

تولى الملك الحكم وكان نظام حكمه في البداية هشاً، فالجيش والحرس المدني ورجالات عهد فـــرانكو يمسكون بمقاليد الحكم، والحياة السياسية والأحزاب ضعيفة للغاية إن لم تكن غير موجودة عملياً، وهنالك شعب وأجيال متعطشة للديموقراطية والحرية والانعتاق من التزمت السياسي والديني، وهنالك محيط أوروبي متشوق لإعادة الحياة الديموقراطية إلى بلد أوروبي أساسي وكبير مثل اسبانيا. وهناك رغبة متبادلة قوية بين أجيـال الداخل والمحيط الاوروبي للحاق بالعصر والانضمام إلى أوروبا والعالم. أما الملك، فلم يكن بين يديه في ذلك الوقت، من أوراق حقيقية سوى الشرعية التي أورثها له فرانكو والتزم بها نظام حكمه.

 

ورث الملك كل ذلك واعياً لأبعاد هذه الظروف، وقرر أن يطلب من رئيس الوزراء الذي ورثه مــن فرانكو أرياس نفارو، الرجل التقليدي والمحافظ والطاعن في السن، أن يستمر في الحكم. وبقــي الملك أشهر عدة كانت كافية كي يدرس وضعه والعلاقات داخل الدولة والمؤسسة العسكرية، واختار بعدها رئيساً للوزراء اسمه "أدولفو سواريث" من الوسط السياسي المعتدل والديموقراطي. وطعــمحكومته الجديدة بوجوه من الحرس القديم محسوبة على النظام السابق، مثل فراغا أريبارنه، مع توجه واضح تجاه الوجوه السياسية الجديدة التي تؤمن بالإصلاح والديموقراطية، وبالحريات، والاقتراب من أوروبا، والنمو الاقتصادي المعتمد على التجارة الخارجية.وتنامت الحياة السياسية في اسبانيا في ظل هذا التوازن السياسي بشكل سريع ومدروس، ووصلت إلى ما وصلت إليه الآن بسبب حكمة الملك خوان كارلوس وبعد نظره وواقعيته. ورسخ في إسبانيا المفهوم الاوروبي في الدول ذات الأنظمة الملكية وهو أنها ملكية دستورية، الملك فيها يملك ولا يحكم.

 

هنالك انطباع قوي في اسبانيا وفي اوروبا ولدي شخصياً بأن الملكة صوفيا كانت من أكبر مستشاري الملك في هذه الأمور وأنها كانت تساعده في إقامة هذه السياسات. لكن من خلف الستار، ولهذا لم يشك أحد من القوى السياسية الاسبانية، من نفوذها أو تأثيرها أو تدخلها في شؤون الحكم.

 

الدرس الذي تعلمته في مدريد هو في القدرة على التزاوج بين القديم والحديث، بين الأصالة والحداثة، وفي التدرج والبناء التراكمي وبناء المجتمع بالتطـور وليس بالطفرة، وفي المزج بين خبرة الكبار وعنفوان الشباب، كل ذلك أصبح جزءً من بنائي الفكري والسياسي والمجتمعي، وقد التزمت به منذ أن عدت إلى عمان لأتسلم مناصب عامة اخرى، وكان هذا الـدرس منارة لي في حملتي الانتخابية عامي 1989 و1993، وحين أصبحت رئيساً للحكومة وما سبق ذلك وما تبعه.

 

سفيراً في فرنسا لدى اليونسكو:

وفــي أكتوبر 1978 انتقلت سفيراً لدى الحكومة الفرنسية ومندوباً دائماً لــدى اليونيسكو. وكانت هذه تجربة جديدة ومختلفة لي امتدت خمس سنوات كاملة. فرنسا وباريس شيء مميز ومختلف عن باقي الدول والعواصم. ومن يستطيع الاندماج في حياتها السياسية والثقافية بإمكانه أن يتمتع بها كثيراً.

 

لا شك أن باريس من أجمل بلدان العالم إن لم تكن أجملها. وكل زاوية فيها مليئة بالتاريخ والثقافة والفن والتراث.

 

حيــــن قدمت أوراق اعتمادي إلى فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية آنذاك (تشرين الثاني /نوفمبر 1978)، كانت فرنسا على وشك أن تدشن سياسة أكثر قرباً وتعاملاً مع العالم العربي. فقد كانت التغييرات في منطقتنا قد بدأت تأخذ منحى نشطاً، خاصة بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وزيارة الرئيس السـادات إلى القدس. وفي هذين الأمرين، كان الأردن في قلب الاهتمام وله علاقة مباشرة بهما. وكــان لفــرنسا أهمية بالغة في هذه التطـورات وذلك: لأن السوق الاوروبية المشتركة -آنذاك-كانت قد بدأت تشهد تغييرات في سياستها تجاه الشرق الاوسط، وكان التقارب والتفاهم الفرنسي الألماني قد بدأ يأخذ حيزاً مهماً في أوروبا، مما أعطى فرنسا موقعاً قيادياً جديداً داخل السوق الاوروبية وفي العالم. وبدأ المفهوم الاوروبي أو الهوية الاوروبية الجديدة بالتبلور.

 

لذلك أعطى جلالة الملك الحسين-رحمه الله-أهمية كبرى لفرنسا خلال هذه الحقبة، وتعامل معها ومع جيسكار ديستان بكل انفتاح وأريحية. كان جيسكار شخصاً راقياً يحب المفاهيم والتقاليد الملكية ومعجباً بسيرة الملك الحسين وسياسته. وكان يرحب به دائماً ويستمع اليه بشغف واهتمام، وكان يرتاح في التعامل معه ومعجباً بالسياسات الوسطية التي يتبعها الاردن.

 

كما كانت فرنسا في حينه تواقة لمساعدة الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال الإسرائيلي وفي إنشاء دولتهم المستقلة، وكانت تعتقد أن ذلك يجب ان يتم بالتفاهم والتنسيق السياسي مع الأردن ودون الإضرار بمصالحه وتوجهاته، لذلك كان جلالته يتردد علــى باريس بشكل مستمر. وكنــت سفيراً في قلب هذه الأحـداث واللقاءات والمداولات، وأصبحت معتمداً من جلالته ووزيراًللخارجية لمتابعة هذه الامور. وأصبحت وفقاً لذلك متصلاً بالإدارة الفرنسية خاصة قصر الاليزيه بشكل دوري، وعلى علاقـــة جيدة مع جيسكار ديستان الذي رأى في خلفيتي السياسية والمهنية والعائليــة، انعكاساً للـــدور الاردني النشط والواعد، فكنت أراه وأقابله على وتيرة مقابلاته مــع سفراء الدول الكبرى أو الدول الاوروبية الحليفة، وقد كلف أقرب مستشاريه واسمه فكتور شابــو كي يكون حلقة الوصل بيننا، ودعاني مرات عدة بشكل شخصي لأرافقه فــــي رحلات الصيد، كما أقام لي حفل غذاء وداعي عند انتهاء مهامي في فرنسا. وكان حينها قد أصبح رئيساً سابقاً للجمهورية.

 

كان عميد السلك الدبلوماسي العربي في فرنسا هو المرحوم يوسف بن العباس، سفير المغرب.وفي أحد اجتماعات السفراء الدورية، اقترح البعض أن نقوم بأنشطة اجتماعية بشكل جماعي بوصفنا سفراء للدول العربية، وأن ندشن هذه الأنشطة بدعوة الرئيس الفرنسي للعشاء في أحد منازلنا. وكانت مفاجأة لنا جميعاً أن الاليزيه قبل الدعوة، وتحدد تاريخها على أن تلبى في منزل السفير المغربي. وكان ذلك سابقة في الدبلوماسية الفرنسية، وأظن انها لم تتكرر بعد ذلك.

 

كان لأهمية دول المغرب العربي لدى فرنسا بالذات وكون سفراء هذه الدول من الوزن السياسي الثقيل في بلــــدانهم (السفير الجزائري محمد بيجاوي، السفير التونسي الهادي المبروك والسفير السعـــودي جميل حجيلان). وصادف حينئذ أن جيسكار ديستان كان يخطط لزيارة المنطقة في وقت قريـــــــب، وهي سابقة أخرى، فضلاً عن رغبة فرنسا في أن تلعب دوراً أكثر نشاطـــاً في قضايا الشرق الاوسط، ومن ثم إعطاء تعاونها مع ألمانيا ثقلاً داخل اوروبا وداخل السوق الاوروبية المشتركة، كلها كانت عوامل جعلت من رئيس الجمهورية يقبل منا هذه الدعوة ويكسر بها تقاليد عريقة.

وفعلاً، تمت زيارة ديستان إلى ثلاث دول عربية منها الأردن في اذار/مارس 1980، وكانت ناجحة جداً وذات أبعاد سياسية واقتصادية بالغة الأهمية لفرنسا وللمنطقة، وحيــن زار الرئيس الفرنسي منطقة "ام قيس" وأعطي إيجازاً عسكرياً هناك، واطلع على جغرافية المنطقة، ظهرت له كم هي متداخلة الجغرافيا في منطقة ضيقة، وكم هي الأمور خطرة. وقد التقطت له صورة أصبحت شهيرة فيما بعد، وهو ينظر من "ام قيس" بالمنظار العسكري باتجاه إسرائيل. ووزعت هذه الصورة على نطاق إعلامي واسع من جانب الجالية اليهودية في فرنسا أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية التي جرت عام 1981، للإيحاء بأن جيسكار ديستان لم يتنازل زيارة إسرائيل، بل وقف على مقربة من حدودها ينظر إليها من موقع عسكري على الجهة المقابلة والمعادية، ومعلوم لنا جميعاً أن فاليري جيسكار ديستان قد خسر تلك الانتخابات لصالح فرنسوا ميتران بفارق قليل.

 

وكانت السوق الأوروبية المشتركة قد بدأت في التعامل الجدي مع منظمة التحرير الفلسطينية من خلال إعلان البندقية عام 1981، الذي أصبح حجر الزاوية في سياسة السوق الجديدة تجاه إسرائيل والفلسطينيين. وكانت فرنسا هي الرائدة في السير في هذا الاتجـاه. ولا بد من إعادة الفضل في هذه القضية بالذات إلى صديقه ألا وهو الملك الحسين، طيب الله ثراه.

 

والجميع بات يعرف تطورات تلك الأيام وما تبعها من نشاط وحراك سياسي كانت فرنسا ومعها دول الاتحاد الاوروبي تدفع به إلى الأمام. وقد تم الاعتراف الكامل بالمنظمة التي أخذت تنشىء سفارات لها وممثليات في معظم الدول الاوروبية. وبسبــــب ثقل أوروبا في الساحة الدولية، فقد أعطت بتعاملها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبسياستها المتوازنة بين المنظمة وإسرائيل، أعطت المنظمة دوراً متصاعداً أو تأييداً وتفهماً للقضية الفلسطينية لم تتمتع به من قبل.

 

خسر جيسكار ديستان الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح الاشتراكيين فرانسوا ميتران، بفارق ضئيل.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                واهتز العالم العربي لهذا الانقلاب في فرنسا، باعتبار أن الاشتراكيين، والرئيس الجديد بالذات وزوجته دانيل هم أقوى أصدقاء إسرائيل في أوروبا. ولم يخف ميتران ذلك اثناء حملته الانتخابية. وكان واضحــاً ان هناك خشية لدى السلك الدبلوماسي العربي من عودة فرنسا إلى مواقف معادية للقضية الفلسطينية.

 

وعين العهد الجديد كلود شيسون وزيراً جديداً للخارجية. وانهمكت الإدارة الجديدة فيطمأنة الحكام العرب، وسفرائهم في باريس، بأن مخاوفهم لا مكان لها. وأن سياسة فرنسا الخارجية لن تتغير بل ربما ستأخذ دفعاً جديداً، وذلك من خلال العلاقات المميزة بين الجمهورية الجديدة وإسرائيل، وأنها سوف تستثمر تلك العلاقات من أجل إيجاد حلول لقضايا المنطقة، ولكن يجب أن يتم ذلك بموضوعية وتوازن أكثر مما كانت عليه أيام رئاسة جيسكار ديستان.

 

وللأمانة أقول إن السياسة الفرنسية لم تتغير على الرغم من أن الطابع الشخصي الذي أضفاه جيسكار ديستان على تلك العلاقات وتلك الحميمية وذلك الدفء، قد تغير إالى حد ما أيام الاشتراكيين، إلا أنه في صميم المواقف والتوجهات لم يتغير شيء. ربما لأن مصالح فرنسا مع العالم العربي، خاصة دول الخليج العربي النفطية، بدأت تأخذ أبعاداً اقتصادية مهمة، لا سيما في مجال التسليح والتكنولوجيا. وحرصت فرنسا على عدم الإضرار بتلك المصالح والأسواق. وربما أيضاً لأن فرنسا كانت ترغب في أن تبقى لها دوراً في الشرق الاوسط، الذي يعزز دائماً مكانتها داخل السوق الأوروبية المشتركة وفي الأمم المتحدة والساحة الدولية.

 

وأذكر تماماً في هذا المجال الدور المهم الذي لعبه فرانسوا ميتران عام 1991 بعد انتهاء احتلال العراق للكويت (وكنت يومها وزيراً للخارجية في حكومة مضر بدران) وكيف أنه كان حلقة الوصل بين الملك الحسين والإدارة الاميركية (جورج بوش الاب) الغاضبة من الموقف الأردني تجاه غزو الكويت.

 

ولذلك قصة يجب أن تروى، وأستطيع أن أضعها في سياق هذا السرد التاريخي لأنني كنت سفيراً في فرنسا أيام ميتران، ولأنني أصبحت بعد عشر سنوات شاهداً عليها مع ميتران نفسه بمعية الملك الحسين بوصفي وزيراً للخارجية.

 

كانت عملية تحرير الكويت وخروج العراق منه مدمرة وقد ألقت بتداعياتها على كل المنطقة، وعلى الأردن بالذات، وذلك بسبب الموقف الجريء في الاردن من هذه الأحداث. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت في اذار/مارس 1991 على لسان رئيسها مبادرة لبدء حل قضية الشرق الاوسط من خلال التفاوض المباشر بيـن الأطراف المعنية وبرعاية الولايات المتحدة، وزار جميس بيكر وزير الخارجية الامريكية المنطقـة في سبيل التمهيد للبدء في هذه العملية، ولكن الاردن كان خارج زيارات الوزير، لكنه لم يكـن خارج اهتمام أمريكا والوزير نفسه. وكان الجميع يعرف أن دور الأردن هو دور أساسي وحيوي.

 

أرسلنـــي جلالة الملك في جولة سريعة إلى دول المغرب العربــي كي أطلعهم على المواقف الاردنيـة، وأسمع منهم مواقفهم وتحليلهم، وانتهت الجولة بزيارتي إلى المغرب حيث التقيت الملك الحسن الثاني بحضور وزير خارجيته عبد اللطيف الفيلالي.

 

كانت مقابلة مهمة ومفصلية، إذ طلب مني الملك الحسن إعلام الملك الحسين أن الوضــع في المنطقة وفي العالم قد تغير بعد أحداث الكويت. وأن أمر المؤتمر الدولي، الذي كان حجر الزاوية في التعامل الاردني مع حل القضية الفلسطينية والمفاوضـات غير المباشرة، قــــــد ولـــى الآن وانتهــى. وأن (قطـــار التسوية) سوف يسير بمــن يـــركب هذا القطار. وعلى الملك الحسيـــن أن يراجع موقفه بكل دقة وموضوعية. فالولايات المتحدة تراقب وضعـه وتنتظر إجابته، وقال الملك الحسن أن ميتران الذي سيقابل الملك الحسين بعد يومين في باريس هو في انتظار جواب ما من الملك حول هذا الأمر.وأن ميتران هو أقرب الاوروبيين إلى أمريكا وسيكـــون سعيداً بنقل جواب الأردن إلى جورج بوش (أو بالأحرى تغيير الموقف الاردني من المؤتمر الدولي والتفاوض غير المباشر)، بل أن بوش ينتظر أن يستلم هذا الجواب عبر ميتران.

 

ذهلت من أقوال الملك الحسن ومن اطلاعه على كل هذه المواقف ومن تلميحاته حول (القطار). فقد وصلت الرسالة وكان عليّ أن أكون دقيقاً في إيصالها إلى الملك الحسيــن. وسافرت إلى باريس مساء اليوم نفسه، حيث كان الملك قد وصلها للتو. وذهبت من المطار إلى قصر الضيافة الملاصق لقصر الاليزيهلأقابله.وكان عواد الخالدي يومها سفير الاردن في باريس. وبحضوره وحضور الشريف زيد بن شاكر نقلت تلك الرسالة بحذافيرها إلى الملك، الذي استوعب معانيها وأبعادها بسرعة. لكنه لم يعلق بالكلام الكثير عليها، وفيما بعد تشاورت معه على انفراد حول الأمور المطروحة، وقرر أن يكون اللقاء مع ميتران في الغد مقتصراً عليه وعليّ فقط.

 

وهكذا كان، فقد التقى جلالة الملك، وكنت بصحبته، وفرانسوا ميتران وبصحبته رولان دوما وزير خارجيته.وجرى التداول في أمر المنطقة وظروفها، وأبلغ الملك ميتران بأن الأوضاع فـي المنطقة قد تغيرت وإننا ندعم المبادرة الامريكية الجديدة وأنه يمكن الاخذ بالصيغ السياسية الجديدة والتعامل معها، وصلت الرسالة واضحة إلى ميتران وأوصلها سريعاً إلى الإدارة الامريكية وانطلق قطار التسوية بركابه وعلى رأسه الاردن.

 

أما الجانب الاخر من عملي في باريس، فكان من خلال اليونيسكو حيث يكون السفير لدى فرنسا هو المندوب الدائم للاردن لدى اليونيسكو. وفي هذا المجال أيضاً شهدت أحداثاً وأنشطة مثيرة للغاية.فقد كان مدير عام اليونيسكو في ذلك الحين السنغالي المسلم المثير للجدل أحمد مختار امبو. وكانت أمريكا تعاديه وتعادي كل توجه دول العالم الثالث ودول عدم الانحياز القوي والمهيمن على أجواء اليونسكو. وقد انسحبت امريكا من اليـونسكو في ذلك الوقت نتيجـة محاصرتها في هذه المنظمة وعدم قدرتها على التصدي لذلك التيار المؤثر. كما كان أحد أهم موضوعات البحث داخل المجلس التنفيذي لليونيسكو موضوع القدس وحفريات اسرائيل تحت المسجد الاقصى، وكان على جدول اعمال المجلس هذا الموضوع في كل دورة.وكانت اليونيسكو ترسل لجان التحقيق والتحقق واحـدة تلو الاخرى. وكانت الولايات المتحدة، التي تعارض مثل هذه البعثات في محاولة منها لحماية اسرائيل وعدم ادانتهـا تفشل في كل مرة. هذه القضايا والأجواء جعلت دور الأردن، ومن ثم دورالمنـدوب الدائم، دوراً محورياً بين المندوبين العرب ودول العالم الثالث بشكل خاص، ولدى الدول الأخرى والأمانة العامة لليونيسكو بشكل عام.

 

وأزعم أنه بسبب جهدي وموقعي فــي اليونيسكو نجحنا في أن يتم انتخاب الأردن (ووزير التربية في ذلك الوقـت سعيد التل) رئيسـاً للمؤتمر العام لليونيسكو الذي يعقد مرة كل عامين. ولاول مرة تنتخب فيها شخصية عربية لهذا الموقع منذ عقود طويلة. وللمرة الثانية مرة في تاريخ اليونيسكو يتسلم فيها عربــي رئاسة المؤتمر العام، وكان سبقه في الخميسنات المندوب اللبناني (وأعتقد أن اسمه كان يعقوب الصراف).

 

كمـــــا أزعم أنني بجهود كبيرة جداً استطعت تسجيل القدس على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، على الرغم من المعارضة الإسرائيلية والأمريكية الغاضبة والمحتجة.

 

هذا الجانب الثقافي / السياسي من عملي في باريس أثرى حياتي كثيراً ونوع تجاربي، ووسع مداركي في جوانب سياسية وثقافية أيضاً. وقد انهمكت بجدية وعمق في تفهم تلك المهام والمعاني والآثار، وأقر أن عملي في باريس لمدة خمس سنوات (لم يخدم أي سفير أردني من قبل مـدة خمس سنوات متتالية هناك) كان الأكثر إثارة ومنفعة في حياتي الدبلوماسية وما تلاها.

 

سفيراً في لندن:

أما عملي سفيراً في لندن، فقد كان قصيراً (مرة أخرى، لم يخدم أي سفير أردني مـــدة بهذا القصر)، وبالتالي فإن مهامي كانت متواضعة للغاية.ولم أكد أنهي زيارتي البروتوكولية للمسؤولين البريطانيين وزملائي السفراء، حتى استدعيت إلى عمان كي أعود إلى موقعي الذي سبق أنْ كنت فيه قبل تعييني سفيراً في وزارة الخارجية وهو موقع نائب في البرلمان.

 

واستفدت معنوياً من كونـي كنت سفيراً في بلاط سان جيمس عندما أصبحت وزيراً للخارجية، لأنني في ذلك الحين ترددت كثيراً على العاصمة البريطانية، وتعاملت بكثافة في ذلك الوقت مع السوق الأوروبية المشتركة ومع الدور البريطاني داخلها.

 

لماذا تركت سفارة لندن وعدت نائباً في البرلمان الأردني؟ كنت قد انتخبت نائباً عن محافظة نابلس عام 1973، يوم كان البرلمان الأردني يمثل الضفتين، وكان عدد نواب كل ضفة (30 نائباً)، وبعد قمة الرباط (تشرين الأول / أكتوبر 1974)، التي قررت أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ولكي يثبت الملك الحسين حسن نواياه تجاه قرار القمة وتجاه منظمة التحرير.خرج من الوزارة كل من يمثل الضفة الغربية وأنا واحد منهم، وتم تجميد مجلس النواب المؤلف من نواب من الضفتين. وهكذا، أصبح من الممكن تعييني سفيراً في وزارة الخارجية.

 

في كانون الأول/ ديسمبر 1983، كان القرار الاردني هو أنه لابد من إعادة عقد مجلس الأمة، لأن الشواغر بالوفاة أو بغيرها في مجلس النواب كادت أن تفقده نصابه إذا ما تقرر دعوته مرة أخرى. وكان النصاب متوفراً بي وبسفير آخر له الوضع نفسه تماماً وهو محي الدين الحسيني. فتقرر استدعاء كلينا من مكاني عملنا (انا من لندن، والحسيني من المغرب)، وقدمنا استقالتنا من وزارة الخارجية، وعدنا نواباً في المجلس. وتم تحقيق النصـاب القانوني لإنعقاد مجلس الامة. وبعد عشرة أيام من انعقاد المجلس في دورته العاديـة، كلف جلالة الملك أحمد عبيدات تشكيل حكومة جديدة. عينت فيها وزيراً للخارجية. وعدت في شهر شباط / فبراير 1984 إلى لندن بهذه الصفة لوداع ملكة بــريطانيا والمسؤولين الآخرين، إذ لم تتح لــي الفرصة لوداعهم حينما غادرت لندن -سفيراً -على عجل.

 

بالنسبة للعمل داخل السفارة وللعلاقات بين الموظفين الدبلوماسيين والمحليين، فقد كانت لها جوانب تختلف عن جوانب العمل السياسي والدبلوماسي. وللأسف -أقول هذا بصراحة -على الرغم من أنني عملت سفيراً حوالي عشر سنوات، ووزيراً للخارجية مدة خمس سنوات، فإن الأمور كانت في غاية الصعوبة والتعقيد في أحيان كثيرة.

لم يكن هناك في السفارات نظام إداري محدد، بل كانت الأمور الإدارية خاضعة لقدرة السفير على التنظيم وضبط العمل وحسن الإدارة. فإن التفت إليها سارت تلك الامور بشكــل مقبول خلال فترة عمله في السفارة على الاقل، وإن لم يلتفت إليها أو كان السفير إدارياً غير ناجح، فإن الأمور تتسيب كثيراً.على العموم، كانت العلاقة بين الموظفين الدبلوماسيين والمحليين تتأثر تبعاً لقدرات السفير هذه، وتخلق في السفارة أجواء سلبية أو إيجابية.

 

كما أن النظام المالي لوزارة الخارجية كان نظاماً بدائياً عقيماً ومركزياً شديد المركزية. ولم تكن لأية سفارة ميزانية مقررة سابقاً، بل كانت تقدم الطلبات المالية من السفارة إلى الوزارة تبعاً لبنود الإنفاق. ولهذا كانت أوضاع مكاتب السفارة ومنزل السفير في حالة صعبة. ونادراً ما كانت تلبي تلك المتطلبات العادية لأي منزل أو مكتب. وإذا ما لبيت، فإن التلبية إما أن تأتي متأخرة أو غير مكتملة.

 

بعض الدبلوماسيين الذين عملوا معي لم يكونوا مؤهلين حقاً، أو لم تكن لديهم الرغبة أو الدافع كي يكونوا في السلك الدبلوماسي يمثلون بلدهم ومصالحه، وكثير منهم كان همه الأول الدراسة والحصول على الشهادة الجامعية الثانية والثالثة، أو أنه كان يجهد لكي يتدبر أمر وضعه المالي، خاصة إذا كان لديه زوجة وأولاد بسبب غلاء تكاليف العيش في العواصم الأوروبية وقلة الراتب، ولذلك ضعف اهتمامه بالعمل وتركيزه عليه. وكانت علاقات الكثير من الدبلوماسيين معدومة مع باقي الدبلوماسيين أو محدودة بعدد قليل من زملائهم خاصة العرب والمسلمين. والأسباب المذكورة نفسها.

 

كان من الصعب جداً عليّ تغيير هذا الواقع وأنا سفير، لأن النظام المالي والإداري لوزارة الخارجية كان مرتبطاً بالقدرة المالية للدولة، وبالموازنة التي تقررها وزارة المالية لوزارة الخارجية، وهذه كانت دائماً قليلة.أما حينما أصحبت وزيراً للخارجية، فقد واجهت الصعوبات نفسها أيضاً. فمثلاً، قررت تعيين عدد كبير من المختصين في المكتبات حتى أتمكــن من إرسالهم إلى السفارات كافة كي ينشئوا نظاماً لحفظ الأوراق وترتيب الملفات ((Filing System. لكنني فشلت في إيجاد المختصين وفي ايجاد المخصصات المالية. واستطعت أن أحصل على قرض بنكي كبير يخصص لشراء منازل ومكاتب للسفارات الأردنية في الخارج.وقد تمكنا من شراء أو بناء الكثير منها خلال خمس سنوات.

 

كما تمكنت من تحسين وسائل الاتصال بين المركز والسفارات وذلك بعد جهد كبير، فلم يكن لدى أكثر السفراء أو الدبلوماسيين ثقافة كتابة التقارير الدورية أو التنسيق في المعلومات حول الأحداث التي تدور، خاصة تلك التي تتعلق بتبادل المعلومات بين السفارات الأردنية ذات الصلة أو العلاقة المتبادلة. وكما فهمت، فإن هذا الحال قد تحسن مؤخراً وأصبح هناك عمل مؤسسي بضوابط واضحة وأوضاع إدارية ومالية أفضل بكثير مما كانت عليه في أيامنا.

 

 

 

 

 

 

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image